كأس المنايا!
من الناس من يحب الدنيا وكأنه لا يرى سواها.. فهل سألت نفسك يومًا: لماذا حذر النبي الكريم من الوهن؟! يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوشك الأمم أن تتداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، فقال قائل يا رسول الله: وما الوهن؟ قال حب الدنيا وكراهية الموت".
أليس هذا الحديث كاشفا لأحوال كثير من الناس في هذه الأيام.. أليس هذا أخطر ما نعانيه اليوم من آفات؛ فرغم أن الموت معلوم من الواقع بالضرورة، فقد مات أجدادنا وآباؤنا، ورحل كثير من أصدقائنا وأحبائنا، من هم أكبر منا سنًا ومن هم أصغر منا.. وقد يأتي الموت في أقرب لحظة.. فلا يعلم إلا الله متى تنتهى الأعمار..
ورغم ذلك فإن البشرية تشقى بالغفلة عن الموت، وتطغى بنسيان الموت، وتفسد بكراهية الموت.. فأنظر لنفسك في أي جانب تقف.. هل تؤمن بأنه لا خلود لبشر وأن المنايا كأس سيشرب الكل منها فلا يبقى إلا الحي القيوم المحيي المميت؟!
الإنسان الفطن هو الذي يدرك أن كل ما له بداية له نهاية.. فالموت غاية كل حيّ، كتبه الله على كل المخلوقات، حتى ملك الموت الذي يقبض الأرواح سيأتي عليه وقت ويموت ولا يبقى إلا الله الحي الذي لا يموت!
ورغم أننا نعلم يقينًا أننا ميتون فإن بعضنا أو أكثرنا لا يزال يظلم غيره، ويؤذي غيره، ويغويه الشيطان بالتسويف واستبعاد لحظة النهاية التي تقترب شيئًا فشيئًا كلما مرّ يوم من عمر الإنسان!
الموت حقيقة وردت في القرآن الكريم في آيات عديدة وبصيغ مختلفة فقد ذكرها الله في أول سورة الملك بقوله تعالى "تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌالَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ".. فلماذا الإعراض عن مصير محتوم لا مفر منه؟!
لست أشك أن أكثر آثام البشر وجرائمهم وخطاياهم إنما وقعت نتيجة غفلة نسى فيها الغافل والمخطيء أنه ميّت، وأن جنازته مؤجلة إلى حين لا يعلمه إلا الله؛ ولو أن الموت كان حاضرًا في ذهن الظالم لحظة ارتكابه أي خطأ ما وقع فيه أصلًا، ولعصمه هذا الإدراك من الغواية والمظالم.. وما تعرض المظلوم لمعاناة لا ذنب له فيها!
الدنيا لا تساوى عند الله جناح بعوضة، وهى ليست غاية في ذاتها وإنما قنطرة للآخرة.. الدنيا دار الإختبار والقرار والآخرة دار الخلود والسعادة أو الشقاء.. الدنيا هى دار العمل والكد والتعب والابتلاء، "يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ".. فلماذا يتصارع الناس على أقل من جناح بعوضة؟!
في الموت جلال وعبرة وعظة بليغة لا يعرض عنها إلا من فقد نور البصيرة.. فلماذا ننسى أننا راحلون ويسعى بعضنا في الدنيا وكأنه مخلّد فيها؛ فيظلم هذا، ويؤذي ذاك، تارة بلسانه وأخرى بيده وثالثة بنفوذه ومنصبه.. ورابعة بقلمه.. وينسى أن العمر لحظة علمنا بدايتها ونجهل نهايتها.. وأن العبرة بالخواتيم والجنازات.
العبرة بالخواتيم؛ والسيرة الحسنة وحب الناس لك وشهادة الجار لك عند الله؛ فالناس شهود الله على الأرض.. فأحسن لنفسك بعمل يكون شاهدًا لك لا عليك، وأحسن فيما بقي من عمرك؛ فيشهد لك الناس بالصلاح بدلا من أن يتمنوا رحيلك بالموت، وإذا ما رحلت كرهوا سيرتك وشهدوا عليك بالسوء!
أفضل ما ينبغي للمرء أن يفعله هو أن يذكر الموت والبلى وأن يستعد للرحيل قبل فوات الأوان يقول النبي الكريم: "لكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني"..
فهل ما زلت تتمنى وتفرط في الأحلام والطموحات دون أن تقدم لنفسك عملًا صالحًا يقربك من الله.. وهل تأملت يومًا قول الله تعالى: "فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا".. هل تحب لقاء الله.. هل تتقبل فكرة الموت وتراه نهاية طبيعية آتية لا محالة.. إذا كنت كذلك فأبشر فقد نجوت من الوهن!