المجتمع التراحمي الذي افتقدناه!
لدينا كنوز فكرية تركها لنا مفكرون عظام نسيهم الإعلام وتغافلت عنهم المؤسسات المعنية بصناعة الفكر والوجدان رغم حاجة الشديدة لكل كلمة قالوها وكل فكرة سطروا وكل رؤية طرحوها في كتبهم ومقالاتهم.
ما أحوجنا مثلا للأطروحات الفكرية القيمة لمفكرنا الراحل العظيم عبدالوهاب المسيري، الذي كرس حياته لكتابة موسوعته الرائدة عن الصهيونية وخطورة مشروعها المتوحش على عالمنا العربي الغارق في الغفلة والشتات، في منطقة ملتهبة بالصراعات والأطماع والخطايا.
ما أحوجنا لما طرحه الدكتورعبدالوهاب المسيري حول المجتمع التراحمي والمجتمع التعاقدي، وإسقاطه لهذه الأطروحة على حياته، ابتداءً من نشأته في مصر إلى انتقاله إلى أمريكا لإكمال الدراسة.
وهذه التقسيمة تنطبق أكثر ما تنطبق على مجتمعاتنا الآن. بل إن الكفة بكل أسف تميل لصالح المجمتع التعاقدي الذي تكالب على المادة والاستهلاك وداس في طريق كل قيم التراحم والأخلاق،
أما المجتمع التراحمي فهو باختصار ذلك المجتمع الذي تقوم علاقاته على التراحم والتعاطف بين أفراده، على النقيض من المجتمع التعاقدي الذي تقوم العلاقات فيه على أساس تعاقدي ومصلحي.
المجتمع التراحمي يمكننا أن نراه في المجتمعات التقليدية، حيث يذكر عبدالوهاب المسيري مثالًا على ذلك نظام مساعدة العريس "النقطة" في الأفراح المصرية، حيث يتم دس المال في يد العروس للمساعدة بحيث لا يراها أحد، وتلك بلا شك عملية تبادلية يتم بمقتضاها توزيع الثروة بين المجتمع، فعطاء الأثرياء يكون عادة أكثر من عطاء الفقراء، وهنا يعبر كل إنسان في عطائه لأخيه عن قيمته هو لا قيمة الذي يعطيه أو يغدق عليه من فضل ماله.
هنا يتجلى التراحم بكل درجاته ومعانيه التي تتسرب اليوم من بين أيدينا في مسلك إناني اعتدنا عليه لكثرة اقترافه أمام أعيننا دون غضاضة.
"فض غلاف الهدية" مثلا يمكنه أن يوضح مفهوم التراحم والتعاقد، ففي مصر كما يقول المسيري، حينما يحصل الإنسان على هدية، فإنه لا يفضّ غلافها، فهي قيمة إنسانية بذاتها ولا يهم محتواها، لكن في أمريكا أشاروا له بضرورة فض غلاف الهدية وإظهار الإعجاب بها مباشرة أمام المُهدي، وهذا في نظر المسيري يجعل الهدية تتحول من قيمة إنسانية بذاتها إلى ثمن محدد "كم" أي من إطار تراحمي إلى إطار تعاقدي..
ففي المجتمع التعاقدي، ثمنها وكميتها وقدرها كلها عوامل مؤثرة في قيمة الهدية، عكس ما يحصل في المجتمع التراحمي حيث لا يوجد إلا القيمة الإنسانية للهدية كهدية. وليست كمحتوى وكمية وثمن.
ويمضى الدكتورعبدالوهاب المسيري في رصد تفاصيل العلاقة الانسانية في إطار تعاقدي حيث يذكر مثالًا آخر وهو علاقته مع عامله المصري حينما كان يدرس بالسعودية، فقد كان عامله الذي ينظف منزله كل أسبوع يصر على أن يقول عند لحظة تقاضي الأجر "بلاش يا بيه، خليها عليّ هذه المرة" وهو في واقع الأمر -برأي المسيري- يقول "برغم أنني أعمل خادمًا عندك وأدخل معك في علاقة تعاقدية فإننا من الناحية الإنسانية متساويان ولابد أن ندخل في علاقة تراحمية تتجاوز عمليات التبادل الاقتصادية "خدمات مقابل نقود". ولهذا فلا داعي لأن تدفع لي هذه المرة..
ولذا يقوم المسيري بإخباره -عمدًا- عن عدم وجود نقود وتأجيل دفع الأجرة للأسبوع التالي، لإعطاء العامل فرصة أن يكون دائنًا، لكي يتم تحقيق التساوي الإنساني التراحمي.. والسؤال: ماذا بقي لنا من المجتمع التراكمي.. ألسنا أحوج ما نكون إليه اليوم أكثر من أي وقت مضى؟!
أليس إخوتنا في غزة ولبنان هم أحوج ما يكونون لإحياء قيم المجتمع التراحمي ناحيتهم؛ لينهص العالم العربي والإسلامي كله بهذه المهمة الإنسانية التي تركناها الأونروا والمجتمع الدولي ونسينا أن هؤلاء المقهورين هم رحمنا وأولى الناس بفوائض أموالنا وطعامنا وشرابنا ودوائنا، فإلى متى ننسى قول نبينا الكريم “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”؟!