ماذا أبقيت لنفسك بعد ترك المناصب؟! (2)
لا شيء يدوم ؛ فالأيام دولٌ، والدنيا يوم حلو ويوم مر، والمنصب أيًّا كان فهو عرَض زائل لا يستقر عند أحد، فلو دام لغيرك ما وصل إليك، وهو ما يجعل أداء الأمانة على وجهها بإخلاص وتفانٍ وتجرد ونزاهة وزهد، ورغبة صادقة في خدمة الناس ونفعهم ضمانة أساسية تجعل يوم مغادرة الوزير أو أي مسئول لمنصبه أحب إليه من يوم توليه لهذا المنصب، وتجعل سيرتهم محمودة، ويبقيهم في ذاكرة الناس مثالًا للشرف والاستقامة والإنجاز وطهارة اليد.
وإذا كان المنصب القيادي في زماننا يمنح صاحبه سلطة ونفوذًا وظهورًا إعلاميًّا مكثفًا فإن من مقتضيات هذا المنصب أيضًا أن يحفظ أمانته، وألا يتكسب من ورائه ما ليس من حقه، وألا يتربح منه شيئًا ما كان أن يصل إليه لولا وجوده في هذا المكان..
حتى الهدية لا يجوز لصاحب المنصب أن يقبلها من أحد طالما شعر أنه سيدفع ثمنها لا محالة من منصبه.. ولنا في رسول الله قدوة حسنة؛ ذلك أنه صلى الله عليه وسلم رغم ترغيبه في التهادي بين الأهل والأصحاب والأحبة لزيادة المحبة بين الناس؛ لكنه رفض الإهداء لذوي المناصب؛ ومن على شاكلتهم من الموظفين والعاملين ومن في معناهم من القضاة والأمراء والولاة، وذلك سدًّا لذريعة الرشوة..
فما أبعد ما بين الهدية المأمور بها المثاب عليها، والرشوة المحرمة المنهي عنها وإن سُمِّيَت أو غُلِّفَت بغلاف الهدية.. فعن أبى حُمَيْد الساعدي رضي الله عنه قال: "استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا على صدقات بنى سليم يدعى ابن اللُّتْبِيَّة، فلما جاء حاسبه، قال: هذا مالكم، وهذا هدية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهلَّا جلستَ في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كُنْتَ صادقا؟!
ثم خطبنا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله، فيأتي فيقول: هذا مالكم، وهذا هدية أهديت لي! أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته؟! والله لا يأخذ أحد منكم شيئًا بغير حقه إلا لقِيَ الله يحمله يوم القيامة، فلَأعرِفَنَّ أحدًا منكم لقي الله يحمل بعيرًا له رُغاء (صوت)، أو بقرة لها خُوار، أو شاة تيعر (تصيح) ثم رفع يديه حتى رؤى بياض إبطيه يقول: اللهم هل بلغت".
ومن مقتضيات المسئولية لأي مسئول أنه يتحمل شخصيًا مسئولية كل قرار يصدر عنه أو عن مرءوسيه، ويتحمل بالضرورة أخطاء فريق العمل الذي يعمل تحت إمرته في كل موقع، وتلك هي روح المسئولية السياسية التي يغفل عنها أو يتجاهلها البعض، والتي تجعل المدير أو القائد مسئولًا عن أخطاء مرؤوسيه أيًا ما كانت وظائفهم..
وأن الفارق بين مسئول وآخر هو الأداء المتميز والحس السياسي والرؤية الواسعة التي تتحرر من الإغراق في تفاصيل يومية روتينية، يحسن أن يباشرها مساعدون أكفاء يتولى المسئول اختيارهم بعناية.. ولن يتحقق النجاح المأمول ما لم يكن هذا المسئول حاضرًا بشكل فاعل بمتابعة مستمرة دؤوبة تفرض على القائمين تنفيذ توجيهاته بدقة متناهية وكأنه موجود بشخصه فى كل صغيرة وكبيرة.
نجاح المسئول لا يأتي من فراغ بل يستلزم مهارات قيادية وتخطيطًا علميًّا بمعايير عالمية، ونشاط دائم لا يكل ولا يمل، ويأخذ من الراحة ما يعينه على مداومة النشاط المبدع بنفس الطاقة مع توزيع للجهد، حتى يحفظ للذهن قوته ويضمن السلامة لقراراته في وقتها المناسب دون إبطاء أو استعجال.
العدالة مع المرؤوسين وتقديم أهل الخبرة والقدرة يضمن تكافؤ الفرص واستدامة الإنجاز، مع الحركة الدائبة وسط الجماهير لحل مشاكلهم وعدم الاتكال على التقارير المكتبية التي تستند لقاعدة بيروقراطية مفادها أن كله تمام وليس في الإمكان أفضل مما كان، فتلك آفة لا يسلم منها إلا من أوتى بصيرة ثاقبة ورؤية نافذة ترى ما لا يراه الآخرون.
الحرص على رضاء المواطن والتزام الشفافية والمصارحة واحترام الرأي العام وتجنب تعارض المصالح يجلب للمسئول حب الناس ويوفر للحكومة ظهيرًا شعبيًّا يؤيدها ويضمن النجاح لقراراتها.. المهم أن يشعر المواطن أن الحكومة تعمل على راحته وتخفيف متاعبه وليس تحميله مزيدًا من الأعباء.
المسئول مطالب بأن يحسب ليوم رحيله ألف حساب، وأن يحسب لوقفته أمام الله ألف مليون حساب، فإذا فعل ذلك أمن شر المنصب، وشر المنافقين وبطانة السوء.. أما إذا غفل ونسي فلا يلومن إلا نفسه!
ترى كم مسئولًا في أيامنا يعلم يقينًا أنه سيترك منصبه طائعًا أو كارهًا.. وماذا أعد لهذا اليوم.. والأهم: ماذا أعد ليوم الموقف العظيم؟!