ماذا أبقيت لنفسك بعد ترك المناصب! (1)
كثير منا يعلق مشاكله في رقبة الحكومة، ويراها مسئولة عن كثير من أسباب معاناته في الحياة.. وهذا اعتقاد له وجاهته، خصوصًا في أوقات الأزمات والغلاء والاعتماد على جيب المواطن في تمويل عجز الموازنة!
لكن هل وقف كل منا أمام مرآة نفسه ليحاسبها على كل تقصير أو كسل أو تواكل أو قصور وفساد؟!
لاشك أن كل واحد منا مسئولٌ بدرجة أو بأخرى؛ فإن لم يكن مسئولًا عن غيره من أسرة أو رعية فإنه على الأقل مسئول عن نفسه وعن تصرفاته أمام الله يوم الموقف العظيم يقول الله تعالى “وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ” (الصافات:24).
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ".
الراعي الحق حافظٌ ومؤتمن؛ يوكَل إليه تدبير الشيء وسياسته وحفظه ورعايته؛ فالطبيب راعٍ لمرضاه وهو مسئول عن رعيته، والمحامي مسئول عن موكليه، والبرلماني مسئول عن أبناء دائرته، والمعلم مسئول عن تلاميذه، والسياسي مسئول عن رعيته؛ يسعى لتسيير أمورهم وتيسيرها، وتلبية احتياجاتهم دون مشقة.
والسؤال: من المسئول الحقيقى؟! والجواب: هو الذي ينجح، يسعد، ينهض بحياته، ينفع نفسه وينفع غيره، إذا أخطأ فإنه يسارع للاعتراف بخطئه ويعود للحق؛ فإن الرجوع للحق خيرٌ من التمادي في الباطل؛ المسئول الحق يتحمل مسئولية أخطائه واجتهاداته، يصبر على الفقر، على المصائب، على القيل والقال، وإضاعة الوقت والمال، بخلاف الشخص الكسول غير المسئول الذي يتحجج بالقدر والآخرين والظروف.
المسئول الحق منفعة لنفسه وللآخرين، الكسول ضرر على نفسه والآخرين! ولعل حال المسئول في الدنيا هو بين أمرين؛ فهو إما ممدوح مأجور يحصل على الأجر والثواب من الله، والشكر والثناء من الناس، وإما مأزور يحمل الوزر ويستحق العقاب من الله، والذم من الناس.
وشتان بين حال المسئول -أي مسئول- وهو يتلقى نبأ تكليفه بالمنصب، وبين حاله وهو يغادر منصبه، في الحالة الأولى يشعر صاحب المنصب ومن حوله بالفرحة وربما بزهو ونشوة واعتزاز بما يجلبه ذلك المنصب لصاحبه من نفوذ ولمن حوله بالمنافع..
إذا حضر المنصب أقبلت الدنيا على صاحبه، وكثر من حوله المنتفعون والراغبون في جني المكاسب، أما إذا جرى استبعاد المسئول، فهو بين حالين، فإن كان صالحًا راعيًا لأمانته فإنه يغادر مكانه وهو يحمل فوق كتفيه تاريخًا مشرفًا يضعه في مصاف العظماء وأهل المصداقية، مصحوبًا برضا الله والناس الذين يحزنون على تركه لمنصبه..
أما إن أساء وضيع أمانته فسرعان ما تظهر مشاعر الشماتة فيه من الكارهين وربما من المحبين المزيفين، وينصرف عنه المنافقون المنتفعون الذين تحلقوا حوله من كل حدب وصوب رغبًا وطمعًا، وسارع الذين طالما زينوا له سوء عمله، لينفضوا عنه في غمضة عين بلا تردد، ولمَ لا وقد انقطعت عن صاحبهم أسباب النفع وتقطعت بهم سبل المغانم الواصلة إليه..
هكذا هي الدنيا التي لخصها حكيمٌ بقوله:
رأيت الناس قد ذهبوا ** إلى من عنده ذهب
ومن لا عنده ذهب ** فعنه الناس قد ذهبوا
وهنا يثور سؤال: ألا يعلم كل مسئول أنه سيغادر يومًا منصبه؟! لماذا لم يأخذ العبرة ممن سبقه؟ لماذا يصر البعض على كتابة سطور القصة من البداية وكأنه لم يسمع أو يقرأ تفاصيل عاشها غيره وانتهت به إلى غير ما يحب ويتمنى؟ أليس الحكيم من اتعظ بغيره، ولم يأخذ العبرة من نفسه؟!
ويبقى أن كل مسئول، صغيرًا كان أم كبيرًا، عليه أن يحسب ليوم مغادرة المنصب ألف حساب.. فلا يبقى إلا السيرة الطيبة؛ فالسيرة أطول من الأجل، وأكثر خلودًا!