صناعة الجهل!
هل يمكن أن يصبح الجهل صناعة.. نعم.. بل إن صناعة الجهل صارت علمًا يُسمى علم الجهل، وهو علم يدرس صناعة ونشر الجهل بطرق علمية رصينة.. ظهرعلم صناعة الجهل فى التسعينيات من القرن الماضي، بعدما لوحظ أن دعايات شركات التبغ التي تهدف إلى تجهيل الناس بشأن مخاطر التدخين..
ففى وثيقة داخلية تم نشرها عام 1979 من أرشيف إحدى شركات التبغ الشهيرة، تبيّن أن أبرز استراتيجية لنشر الجهل كان عن طريق إثارة الشكوك فى البحوث العلمية التى تربط التدخين بالسرطان؛ لتهوين مخاطر التدخين في أعين المدخنين.
ومن يومها انطلق لوبي التبغ فى أمريكا برعاية أبحاث علمية مزيّفة تهدف لتحسين صورة التبغ اجتماعيًا ونشر الجهل حول مخاطره؛ وتبدأ عملية التجهيل دومًا بالتشكيك فى الحقائق الواضحة، ثم في مرحلة تالية يتم نقل المتشكك إلى حالة الرفض التام للحقيقة، وهو ما يسمى الإنكار.
إنكار ما هو معلوم من الواقع بالضرورة؛ ومن ثمَّ يصبح عقله جهازًا لاستقبال معلومات جديدة، هى المعلومات المغلوطة، وتصديقها والتعاطي معها ربما تحت تأثير النشوة الموهومة أو التخدير الزائف.
صناعة الجهل تتعدد صوره وتتنوع أشكاله؛ فتارة يجري حجب أضرار المشروبات الغازية والسكر الموجود بها والآثار الجانبية للأدوية والأطعمة المحفوظة والشذوذ الجنسي..إلخ.
أخطر مثال لصناعة الجهل هو التعليم ضعيف الفائدة، والذي يعتمد على الحفظ ولا يعتمد على الابتكار وحل المشاكل وتحليل أسبابها، وتحقيق الأهداف فى أسرع وقت وبأقل مجهود؛ هذا النوع من التعليم هو أسوأ أنواع صناعة الجهل؛ وهو تغييب متعمد للعقل وإهدار لفرص الأجيال في الترقي والصعود الاجتماعي، وإهدار لحق الدول في التنمية والنهضة المنشودة.
ومثل هذا النوع من التعليم الضعيف يقود للسطحية والتفاهة وضعف الذاكرة، وهشاشة الشخصية والوهن الاجتماعي والتدمير المنظم للأوطان والأحلام.
مواقع التواصل الاجتماعي، من (سناب شات، فيسبوك، إنستجرام، تك توك) تسهم في تكريس السطحية والتفاهة؛ إذ بدأت بالظهور على هذه المواقع شخصيات لا تملك أي موهبة ولا حتى تحصيل علمي..
شخصيات بمحتوى ومظهر خارجي لم نعهده من قبل، كل ما يقدمونه هو التفاهة، حتى بات التريند غاية في ذاته؛ نصحو كل على أشخاص تافهين، وهى ظاهرة باتت تنتشر كالنار في الهشيم حتى أضحت التفاهة مهنة يسترزق منها هؤلاء الذين نالوا لقب مشاهير أو مؤثرين أو رموز إعلامية.
الدراما والسينما رافد مهم يغذي صناعة الجهل والتفاهة وفقدان القدرة على تكوين موقف إزاء أي قضية مهمة أو حتى جانبية، ومثل هذه الحالة هي أخطر ما تواجهه مجتمعاتنا التي تفقد شيئًا فشيئًا ارتباطها بالقيم والجذور والأصول ليسهل تشكيلها وتوجيهها إلى حيث يريد صنّاع التفاهة والسطحية والأهم الجهل.. وما أدراك ما الجهل!