خيول أمل دنقل وسلاحف الأنظمة
فى قصيدته الخيول، يرسم الشاعر الكبير أمل دنقل صورة مدهشة لواقع كان يراه مبكرا بحسه ويخطه برؤية واقعية لم نكن نراها، يقول دنقل:
الفتوحات فى الأرض مكتوبة بدماء الخيول
وحدودُ الممالك
رسمتها السنابك
والركابان: ميزان عدل يميل مع السيف
حيث يميل
اركضى أو قفى الآن.. أيتها الخيلُ:
لستِ المغيرات صبحا
ولا العاديات كما قيل ضبحا
ولاخضرة فى طريقك تُمحى
ولا طفل أضحى
إذا ما مررت به يتنحَّى
وهاهى كوكبة الحرس الملكي..
تجاهد أن تبعث الروح فى جسد الذكريات
بدقِّ الطبول
اركضى كالسلاحف
نحو زوايا المتاحف.
ربما لم يجل بخواطرنا نحن الأجيال التى تربت على أن الصراع صراع وجود، لا صراع حدود، أن تصل بنا محطات العمر إلى هذا الدرك من الانحطاط، وأن نرى من يتناقشون حول حق الضحية في الدفاع عن نفسه، وأن نرى من عواصم العرب من يمد الصهاينة بالمال والعتاد.
لم نتصور -ولو حتى خيالا- أن تكون هناك عواصم عربية ترفع حالة الاستعداد القصوى لدفاعاتها الجوية للذود عن العدو الذى يقتل كل يوم فينا نخوتنا وشهامتنا، حتى وصلنا إلى هذا الإعلان الصريح من مدن عربية وقوفها ضد الحق فى الحياة، ومساندة من يتبنون الموت لأهلنا فى غزة.
ولم يكن يخطر ببال الواحد منا أن يفرض الصمت على أكبر العواصم العربية التى كانت شوارعها زاخرة بالملايين، يتظاهرون دعما للحق الفلسطينى فى أحلك اللحظات، بل وفى أضعف فترات التاريخ بعد هزيمة 1967 م التى كانت وبالا على الأمة كلها.
ولم يكن من المحتمل أن تعيش البعثات الدبلوماسية الأمريكية والإنجليزية والفرنسية وسط كل هذه القوات الأمنية التى ترفع حالة الاستعداد خشية اندلاع مظاهرات معادية لكل من قتل أو شارك أو تخابر أو أمد العدو بالمال والسلاح والمعلومات ليقتل طفلا عربيا فى غزة والضفة.
ولم يكن من المنطقى أن نقرأ تفاصيل مطاردة قوات فلسطينية فى الضفة لواحد من شرفاء المقاومة، الشاب العشرينى محمد جابر شجاع وتحبسه؛ تحقيقا لرغبة العدو، ويسجن سنوات ثم يخرج لتطارده قوات العدو فيرحل أبيا كريما شهيدا بعد أن يكبدهم خسائر تليق باسمه وتاريخه.
وفى الوقت الذى كنا نطارد فيه عددا محدودا من شخصيات مصرية وعربية ساروا فى طريق التطبيع، نرى عواصم عربية تفخر ببناء المعابد اليهودية، ويتراقص شبابها مع حاخامات الدم المؤمنين بكل ما تلقى به الحركة الصهيونية العالمية من حمم الكراهية والبغضاء ضد شعبنا الحر فى فلسطين المحتلة.
وزمان كان “المطبع” يخشى على نفسه وبيته وأهله من عصبية الشباب وحماسة الكبار، فيلجأ إلى الأمن حماية له لنصبح فى زمن أصبح فيه رافضو التطبيع يخشون على أنفسهم من المطاردة والاعتقال والسجن والحصار فى المال والولد والبيت والعيش الكريم.
وزمان كان الواحد منا يقشعر بدنه عندما يقرأ كتابا عن بطل عربى قاوم حتى الشهادة، أو رأى مشهدا من فيلم وثائقى عن قرية وقفت ضد التهجير والتغريب وفضل أهلها الموت صمودا أمام آلات العدو وجيوشهم وبارودهم وصواريخهم فتركوا أثرا ونورا لهداية الأجيال القادمة.
عشنا إلى ذلك العصر الذى استسلمت فيه دول بأكملها وشاركت أخرى بعتادها وجيوشها فى حصار المقاومين ورافضى التطبيع والمقاتلين دفاعا عن شرف أمة أهانها ولا يزال يهينها الغرب المتمدد فى عروق حكامنا والمتحكم فى بقائهم ووجودهم.
وتسربت إلى مدارسنا نماذج جديدة من دين جديد، دين يرفض الكرامة ويرسخ للهوان ويبشرنا بالانتماء إلى إبراهيم كدين واحد يجمع الكل، والكل ليس فيه فلسطين، وتلغى من مناهجنا كلمات المقاومة والجهاد والدفاع عن الأوطان والذود عن كرامة الإنسان وتزرع بدلا منها كل فقاعات الوهم والوهن والضعف والاستكانة.
عشنا لنرى بأم أعيننا أن الملاذ الآمن هو رضوخ للنموذج الأمريكى والركوع فى محراب الهداية الغربية، وتلاوة آيات العرفان للعم سام، الذى إن شاء رفع وإن شاء سحق، وعلى الجماهير أن ترى ما يراه الحاكم وتؤمن بما يؤمن به الحاكم، والحاكم جاء متعاليا علينا مدعوما بشرعية البيت الأبيض.
غربة تلك التى أعيشها مع أجيال ليست بالقليلة، أجيال تربت على نفض غبار الهوان عن الأمة والسعى لنيل شرف الشهادة بدلا من العيش تحت ظل الذل والهوان، أجيال كانت ترى أن مجرد رفرفة علم العدو خيانة فأصبحنا نعيش داخل نجمة داوود وعساكر الأنظمة تحرسها وتحميها من فورة غضب.