عن غزة المحررة نحدثكم
بعد يوم من متابعة الأحداث الجسام وموت الصغار والكبار، والغرق في بحر أخبار لا يرد فيه ولو ملمح من أمل فى غد، أو حتى ساعة قادمة بلا دماء أو دمار، أو دون تكرار للأكاذيب والإنصات إلى الخداع القادم من شمال الكرة الأرضية، ليغرق أهل الجنوب بسيول من الضلال.
أعود بعد كل يوم من تلك الدوامة السوداء، محاولا الخروج من شرنقة تضيق على العنق، وتحاصر الصدر الممتلئ كبتا ودمعا حبيسا، وقطرات من إحساس بالمرارة، لا شيء يسرى عن القلب أو ما رأته العين وما اعتمل فى العقل وما تدبرته الأفكار طوال خمس عشرة ساعة من المرار.
في ليلة من ليالى الأخبار تدور رحى المعركة بين أبطال من إرادة، وحصار من رفاهة القوم في وطننا العربي المترامي الأطراف، في تلك الليلة ومثلها من ليالى السباحة في بحر الأخبار، وصور القتل والدمار لا تستطيع أن تهرب إلى ساعات من الخلود إلى الراحة.
أعود محاولا العبث ببعض كتب وقصص، كنت قديما أهرب إليها من أحداث كنت أظنها فى حينها صعبة وقاسية، حتى جاء اليوم الذي عشت فيه تلك المآسى.. أقلب صفحات رواية عميقة لأديب عظيم، محاولا ألا أغادر سطورها علنى أغوص فيها، بعيدا عن صور متلاحقة تطاردني.
أطارد ريموت التلفاز بحثا عن فيلم عربى قديم، كان في زمن الملل يسرى عني، ويسلبنى من ذاتى المتعبة إلى مساحات من نوستالجيا ممتعة، لا أعبأ بأحداث عتيقة، ولا تأخذنى المشاهد التى كانت تخطفنى قديما، لا تزال ذات الصور القاسية تسيطر على كل تفاصيل أفكاري.
أعود إلى موسيقى بليغ حمدى ذلك الأعجوبة التى خلت، وتركت لنا من تراثها ما كان يعيننا على مصائب الدهر التى كنا نتصورها فى حينها مصائب كبرى، فلم تعد بالقياس لما نحياه إلا مجرد قصص قصيرة، إلى الحد الذى لم نعد نتذكر حتى تفاصيلها.
لا أعرف لماذا تمدد بنا الزمن إلى تلك المساحات من السواد والملل والكآبة، جاءت إلينا كل مفردات اليأس في لحظة عمرية، لم نعد نقوى فيها على المقاومة، عشنا دهرا نؤمن بأننا أمة لها تاريخ، ولديها صباحات قادمة فى رحم المستقبل، فأصبحنا فى عصر لا أمة فيه، ولا تاريخ نحكيه، ولا حتى لحظة وادعة تتركنا نرحل فى هدوء.
لا يزال ذلك الصبى الذى يهتف “نحن غزة” والدماء تكسو وجهه يلقى بكل مفردات العتاب على نفسي، ويوقظ فى ذاتى كل أحاسيس العجز المفرط، ولا تزال تلك المرأة التى تنادى بصوت يحمل من الحسرة أكثر مما يحمل من الأمل، تخاطب قوما ماتت فيهم النخوة، فلا نخوة ولا رجولة ولا موقف، كل هذه الصور تتداعى على فى المساء فلا أنام.
ليس إحباطا ولا يأسا ما أحياه، إنه الواقع الذى يحاصر الإنسان، أى إنسان لا يزال يحمل بين ضلوعه قلبا ينبض، أعايش الصور التى تتتابع أمام ناظرى طوال اليوم، وأنا أنقل إلى الناس كل ضلالات الغرب، وكل حقارة الشرق، وكل خيانات العرب حاكمين ومحكومين.
أطارد الأرق راجيا النوم دون جدوى، وأنا أدفن هواجسى بدعاء لعل السماء تستجيب، وأغوص في ظلام النفس الموحش، فأعود جاحظ العينين، أتأمل ظلمة لم تترك لى نافذة أسبح فيها بعيون متعبة، مرهقة، دامعة، فأعود إلى الحياة مرة أخرى، متابعا لنشرات الأخبار السوداء المتلاحقة.
وبينما أنا مشدود بين الصبى والمرأة المكلومة، أتابع في عواصم عربية أخبار المهرجانات والمطربين وليالى العواصم التى كانت تبكى على قدس الأقداس، وتترك للناس ساحات للاحتجاج والاعتراض والتذمر والغضب، فأرى شبابا يتراقصون على أنغام صاخبة وكأننا في عالم غير العالم.
يهرب النوم من عيونى ثالثة فأعود إلى الأخبار، وأتابع مفاوضات من العبث تتورط فيها عواصم كبرى منحت للعدو الغادر فرصا لمزيد من القتل والصلب والتدمير والاعتقال والحبس والسجن وحصار كل النفوس الحرة هنا وهناك.
أدرك الآن أن غزة وحدها هى الأرض المحررة، وأوقن أن شباب غزة وحدهم هم الباقون رغم الرحيل، فالرحيل وقوفا أعظم من الموت على أسرة ناعمة، وأتذكر ما قاله خالد بن الوليد معترضا على الموت مثل البهائم بعد كل تلك الحروب والانتصارات والغزوات.
أدرك الآن أن ما قاله نزار ليس حقيقيا، فليس عندى الآن بندقية، وليس لدى القوم بنادق ولا خنادق، لدى القوم كهوف من الخوف والرداءة، وبينما يدق العدو حدودنا، فإن للقوم مسالك إلى المهالك، وللقوم حسابات غير حساباتنا، فحسابات البنوك هى الأقوى وهى الأبقى.. لدى القوم ليال غير ليالينا المتعبة، لدى القوم ليالى أنس ليست في فيينا.