الحسينى والسنوار.. توأمة حتى الشهادة
إنا نقص عليك بعض آيات النضال العربى العظيم على أرض باركها الله في قرآنه الحكيم؛ ليعلم من خالطته بعض ملامح الخضوع والاستسلام أن النصر آت لاريب، وأن الراية بين أياد بيضاء من غير سوء، وأن الرحيل شرف في القتال أعظم عند الله من الموت كمدا تحت رايات الهزيمة.
من نهايات أسطورة الشهيد عبد القادر الحسينى مفجر الثورة الفلسطينية الكبرى إلى ملحمة يحيى السنوار -ليس آخر عناقيد الغضب الثورى العظيم- بعصاه الخالدة يخط التاريخ الإنسانى المقاوم لأبطالنا العرب ملامح للفداء من أجل الحرية والاستقلال، تسلم السنوار الراية ليسلمها عصاة تلقف ما صنعوا إن ما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى.
طرق المناضل الفلسطينى عبد القادر الحسينى كل أبواب العرب الرسمية عندما خاطب الجامعة العربية وطالبهم بدعمه، فلم يلق منهم إلا كل خيبات الرجاء فقال قولته الشهيرة «إننى أحملكم المسئولية بعد أن تركتم جنودى في أوج انتصاراتهم بلا عون أو سلاح».
وعاود الرجل في رحلة كفاحه طرق الأبواب، فلم يطلب منهم مقاتلين أو جنودا نظاميين، فقط طلب السلاح «نحن أحق بالسلاح المخزن من المزابل، إن التاريخ سيتهمكم بإضاعة فلسطين وإننى سأموت في القسطل قبل أن أرى تقصيركم وتواطؤكم»..
حدث ذلك قبل ستة وسبعين عاما انقضت، أدرك عبد القادر الحسينى أن في أعناق السلاطين والأمراء أغلالا فهى إلى الأذقان فهم مهزومون، عاش الحسينى عند ربه شهيدا ومات كل من خذلوه.
وفي طريق الاستشهاد المبارك طرق عبد القادر الحسينى أبواب الشعوب فنال منهم ما أراد عندما كون مع قوى وطنية مصرية وليبية كتائب من فتية آمنوا بتاريخهم وصدقوا ما عاهدوا الله عليه، فأقاموا معسكرا على الحدود المصرية الليبية وعاودوا الكر والفر، وقاموا بعمليات فدائية ضد الاحتلال الإنجليزي، وتواصل مع مفتى القدس المناضل الفلسطينى المدهش أمين الحسينى وتوافق معه على دعمه ورجاله في حربهم ضد عصابات الهاجاناه.
وإذا كان عبد القادر الحسينى قد جرب طرق أبواب العرب في قصورهم، فإن يحيي السنوار لم يطرق أبواب العواصم العربية الرسمية فقد أيقن أنهم لبثوا في تفريطهم سنين عددا وآمن مع رجاله وبهم أنه ليس مطلوبا منه إلا «وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ» وقد استطاع الرجل ومعه ثلة من المجاهدين الأبرار أن يزلزلوا عواصم الجبروت في أوربا وأمريكا وعواصم الخزى والعار في عالمنا الذى كان يوما عربيا.
في العام 1946م فطن عبد القادر الحسينى إلى دور الميديا فأنشأ إذاعة في رام الله؛ لإثارة الحماسة لدى شباب فلسطين، فلم يكن من يحيي السنوار إلا أن سار على هديه فأنشأ امبراطورية إعلامية أسماها أبا عبيدة الذى واجه أعتى آلات الغرب الإعلامية بإطلالة شامخة ملثمة أصبحت رمزا للحق والحقيقة.
عبد القادر الحسينى تمكن من وضع شفرة لاسلكية تواصل من خلالها مع الكيانات المقاومة في ذلك الوقت، بينما عاد يحيى السنوار إلى سيرة الأولين بالاستطلاع البدائى؛ هربا من أساطير التقنيات الحديثة، فحاربوا فيه بكل ما أتاهم الشيطان من أدوات تقنية وقفت عاجزة أمام البداءة المذهلة فظل مع رجاله كأشباح لا تدركها أدواتهم اللعينة فجعل من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشاهم الله فهم لا يبصرون.
وإذا كان عبد القادر الحسينى قد اعتمد على علماء شبان من بلده في إنشاء معمل للمتفجرات ليمد بها جنوده على الأرض، فإن يحيي السنوار قد التقط خيط الاعتماد على الذات فحفر الأنفاق ومع رفاقه أصبحوا في فجوات منها ينثر عليهم ربهم رحمات منه أنشأ معامله ومصانعه تحت الأرض لمد رجاله بسلاح مُطعمٍ بالإرادة فكانت ولاتزال مواجهة لا تستطيع معجزاتها إلا أن تقول: كانوا من آياتنا عجبا.
وإذا كان عبد القادر الحسينى مشعل الثورة الفلسطينية الكبرى قد نهل من التعليم الدينى بحفظ القرآن في زاوية بالقدس، فإن يحيى السنوار الذى ولد بمخيم خان يونس قد التحق بالجامعة الإسلامية ليصبح المعين الفكرى رابطا بين مشعل الثورة الكبرى ومحيى القضية من جديد ووضعها على مائدة الحوار العالمي.
تتشابه إلى حد كبير ظروف الحياة بين الاثنين؛ فالأول شب على وعد بلفور ومنطقة عربية تعانى من الاستعمار وتدار عواصمها من لندن، وتمارس قياداتها كل ألوان الخيانات في ملف التفريط، أما الثانى فقد شب في سجون الاحتلال ومحيطه العربى لا يزال خاضعا للسيطرة والاستعمار وتدار عواصمه هذه المرة من واشنطن.
وإذا كان عبد القادر الحسينى قد طاف العالم بين إسطنبول ودمشق وبغداد والقاهرة، واستشهد على أرضه فإن بناء أسرته قد اكتمل بزواجه من السيدة وجيهة الحسينى فلسطينية المولد والهوى والهوية، وأنجب منها ولدين وبنتا، أما يحيي السنوار فقد عاش على أرضه دون هجرات وأكمل بناء عائلته بالزواج من السيدة سمر أبو زمر فلسطينية المولد والهوى والهوية وقد أنجبا ثلاثة أولاد لا يعرفهم إلا المقربون.
عبد القادر الحسينى قاتل الإنجليز أصحاب وعد بلفور وقاتل العصابات الصهيونية على أرضه وسط تفريط عربى فضحه بسطور تركها على جدران التاريخ لمن جاءوا بعده، بينما قاتل يحيى السنوار كل عواصم الشر في أمريكا وأوربا، وتحركت بسببه أساطيل أمريكا وإنجلترا وفرنسا وسط هوان عربى لا يقل عن ذلك الذى عايشه الحسينى في مهد الثورة الفلسطينية العظيمة.
في أوج غضبته من الهوان العربى قال عبد القادر الحسينى «سأموت في القسطل -قرية فلسطينية- قبل أن أرى تقصيركم وتواطؤكم»، وقد نال ما تمنى ووجدوه بالصدفة شهيدا في قرية القسطل بعد انتهاء معركته الشرسة ضد القوات الصهيونية..
أما يحيى السنوار فقد قال على الملأ «أتمنى أن أموت بقذيفة أو طلقة على أن أموت بجلطة أو في حادث سير»، وقد نال ما تمنى ووجدوه صدفة بعدما قاتل حتى النفس الأخير في رفح تاركا عصاه لينسجوا منها حكايات لجيل جديد يمضى على نفس الدرب إلى القدس محررا من دنس المجرمين.