رئيس التحرير
عصام كامل

مانديلا والمصالحة الوطنية

هذه الرسالة للزعيم الأفريقي نيلسون مانديلا نشرها الكاتب الموريتاني أحمد فال ولد الدين على مدونته الشخصية فى السابع من شهر يوليو 2011م، موجهة إلى شعبي مصر وتونس بعد ثورتيهما، وسقوط النظامين بالبلدين.


ورغم طول الرسالة، إلا أن نشرها كاملة ينشط الذاكرة، ويؤكد من جديد أن زعامة مانديلا ضد الظلم والقهر والعنصرية، إنما اكتملت بما فعله عندما رأى النور بعينيه، بعد خروجه من محبسه بعد سنوات من التنكيل والتعذيب والإهانة.. 

عندها قرر مانديلا أن يتعامل مع جلاديه بطريقة أعلى المناضل فيها قيمة الحرية، وتسيد من جديد منبر الإنسانية فكان واحدا من حكايات أفريقيا التي نفخر بها جميعًا.

 


يقول مانديلا فى رسالته: 


أعتذر أولًا عن الخوض فى شئونكم الخاصة، وسامحوني إن كنت دسست أنفى فيما لا ينبغي أن تقحم فيه.. لكني أحسست أن واجب النصح أولًا، والوفاء ثانيًا لما أوليتمونا إياه من مساندة أيام صراع الفصل العنصري، يحتمان عليّ رد الجميل وإن بإبداء رأي محّصته التجارب وعجمتْه الأيامُ وأنضجته السجون.


أحبتي ثوار العرب؛ ما زلت أذكر ذلك اليوم بوضوح، كان يومًا مشمسًا من أيام كيب تاون، خرجت من السجن بعد أن سلخت بين جدرانه عشرة آلاف يوم.


خرجت إلى الدنيا بعدها، وُورِيتُ عنها سبعًا وعشرين عامًا، لأني حلمت أن أرى بلادي خالية من الظلم والقهر والاستبداد، ورغم أن اللحظة أمام سجن فكتور فستر كانت كثيفة على المستوى الشخصي ، إذ سأرى وجوه أطفالي وأمهم بعد كل هذا الزمن، إلا أن السؤال الذي ملأ جوانحي حينها هو: كيف سنتعامل مع إرث الظلم لنقيم مكانه عدلًا؟


أكاد أحس أن هذا السؤال هو ما يقلقكم اليوم، لقد خرجتم لتوكم من سجنكم الكبير ، وهو سؤال قد تحُدّد الإجابة عليه طبيعة الاتجاه الذي ستنتهي إليه ثوراتكم.. إن إقامة العدل أصعب بكثير من هدم الظلم.
فالهدم فعل سلبي والبناء فعل إيجابي.. أو على لغة أحد مفكريكم -حسن الترابي- فإن إحقاق الحق أصعب بكثير من إبطال الباطل.

 

أنا لا أتحدث العربية للأسف، لكن ما أفهمه من الترجمات التي تصلني عن تفاصيل الجدل السياسي اليومي فى مصر وتونس تشي بأن معظم الوقت هناك مهدر فى سب وشتم كل من كانت له صلة تعاون مع النظامين البائدين، وكأن الثورة لا يمكن أن تكتمل إلا بالتشفى والإقصاء، كما يبدو لي أن الاتجاه العام عندكم يميل إلى استثناء وتبكيت كل من كانت له صلة قريبة أو بعيدة بالأنظمة السابقة. ذاك أمر خاطئ فى نظري.


أنا أتفهم الأسى الذي يعتصر قلوبكم، وأعرف أن مرارات الظلم ماثلة، إلا أنني أرى أن استهداف هذا القطاع الواسع من مجتمعكم قد يسبب للثورة متاعب خطيرة، فمؤيدو النظام السابق كانوا يسيطرون على المال العام، وعلى مفاصل الأمن والدولة، وعلاقات البلد مع الخارج، فاستهدافهم قد يدفعهم إلى أن يكون إجهاض الثورة أهم هدف لهم فى هذه المرحلة التي تتميز عادة بالهشاشة الأمنية، وغياب التوازن.. أنتم فى غنى عن ذلك، أحبتي.


إن أنصار النظام السابق ممسكون بمعظم المؤسسات الاقتصادية التي قد يشكل استهدافها أو غيابها أو تحييدها كارثة اقتصادية، أو عدم توازن أنتم فى غنى عنه الآن.


عليكم أن تتذكروا أن أتباع النظام السابق فى النهاية مواطنون ينتمون لهذا البلد، فاحتواؤهم ومسامحتهم هو أكبر هدية للبلاد فى هذه المرحلة، ثم إنه لا يمكن جمعهم ورميهم فى البحر أو تحييدهم نهائيًا، ثم إن لهم الحق فى التعبير عن أنفسهم، وهو حق ينبغي أن يكون احترامه من أبجديات ما بعد الثورة.


أعلم أن مما يزعجكم أن تروا ذات الوجوه التي كانت تنافق للنظام السابق تتحدث اليوم ممجدة الثورة، لكن الأسلم ألا تواجهوهم بالتبكيت إذا مجدوا الثورة، بل شجعوهم على ذلك حتى تحيدوهم، وثقوا أن المجتمع فى النهاية لن ينتخب إلا من ساهم فى ميلاد حريته.


إن النظر إلى المستقبل والتعامل معه بواقعية أهم بكثير من الوقوف عند تفاصيل الماضي المرير، أذكر جيدا أني عندما خرجت من السجن كان أكبر تحدٍ واجهني هو أن قطاعا واسعا من السود كانوا يريدون أن يحاكموا كل من كانت له صلة بالنظام السابق.. 

لكنني وقفت دون ذلك، وبرهنت الأيام أن هذا كان الخيار الأمثل، ولولاه لانجرفت جنوب أفريقيا إما إلى الحرب الأهلية أو إلى الديكتاتورية من جديد، لذلك شكلت لجنة الحقيقة والمصالحة، التي جلس فىها المعتدي والمعتدى عليه، وتصارحا وسامح كل فيها الآخر.. إنها سياسة مرة لكنها ناجحة.


أرى أنكم بهذه الطريقة– وأنتم أدرى فى النهاية- سترسلون رسائل اطمئنان إلى المجتمع الملتف حول الديكتاتوريات الأخرى ألا خوف على مستقبلهم فى ظل الديمقراطية والثورة، مما قد يجعل الكثير من المنتفعين يميلون إلى التغيير، كما قد تحجمون خوف وهلع الديكتاتوريات القائمة من طبيعة وحجم ما ينتظرها.


تخيلوا أننا فى جنوب أفريقيا لو ركزنا -كما تمنى الكثيرون- على السخرية من البيض وتبكيتهم واستثنائهم وتقليم أظافرهم.. لو حصل ذلك لما كانت قصة جنوب أفريقيا واحدة من أروع قصص النجاح الإنساني اليوم.. أتمنى أن تستحضروا مقولة نبيكم: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”.


انتهت رسالة الزعيم الذي سيظل حاضرا فى ذاكرة الإنسانية، ومنها نطرح لحوار جاد بين عقلاء الأمة.. هل يمكن لوطن أن ينهض ولا يزال فيه من تعاملنا معهم عكس ما دعانا إليه واحد فى حجم الزعيم الأفريقي نيلسون مانديلا؟

 


من هنا فإنني أطرح على القائمين على الأمر مسألة المصالحة التي يجب على الدولة أن تتبناها، خصوصا وأن ما يحاك لنا وما يحيط بنا من أحداث جسام يفرض علينا اللحمة الوطنية، والقضاء على الضغائن وفق أجندة وطنية، تعلي قدر الوطن، لتصبح مصر فوق الجميع، بلدا خاليا من الظلم والقهر والإقصاء والتهميش.

الجريدة الرسمية