نيل الأغنياء وبحر الأثرياء
حزمنا حقائبنا وانطلق ثلاثتنا إلى العجمى، كان ذلك في تسعينيات القرن الماضى، ووصلنا إلى حيث الحجز الذى قام به أحدنا، وكنا على مقربة من واحد من عجائب النظام المصرى وحكوماته المتعاقبة عندما قرروا أن البحر المتوسط أصبح ملكية خاصة يمكن لبعض الأفراد من علية القوم أن يتملكوه!
أتذكر أن الشاطئ كان اسمه شاطئ شهر العسل، وهو شاطئ خاص لا يمكن للعامة من أمثالنا أن يطأوه أو أن يستمتعوا بمياهه أو رماله، حيث أصبح حكرا وله طبيعة خاصة تحجبه عن العامة من المصريين، ويتمتع به خاصة الخاصة الذين تملكوا على ضفته فيلات وشققا وشاليهات.
كنا نسبح في عمق البحر لكى نرى هؤلاء الناس، لم يكونوا مثل كل المصريين، أزياؤهم ولباس البحر الخاص بهم وأطعمتهم ووسائل الترفيه على شاطئهم، حتى شماسيهم وكراسيهم غير كل الكراسى والشماسى التى نعرفها نحن المصريين العاديين.
أتذكر أن صحف المعارضة وجدت في هذا الشاطئ الخاص مادة صحفية ثرية، وعن حكايات العجمى صدرت كتب ونشرت حلقات، اتسم النشر بالغموض وإطناب الحديث عن ملذات هؤلاء القوم وأسرارهم وحكاياتهم وانتماءاتهم وألوان بشرتهم!
وكانت كلمة شاطئ خاص تبعث في النفس نوعا من الغموض والإثارة، حيث عهد الناس الشواطئ للجميع ولا يمكن أن يمتلك فرد جزءًا من البحر المتوسط أو البحر الأحمر، ومنذ هذا التاريخ، وقد تمددت فكرة القرى السياحية من مراقيا إلى سيدى كرير، ووصولا حتى عجيبة العجائب مارينا، وما أدراك ما مارينا؟!
لم تخجل الحكومات المتعاقبة ولم يخجل نظام مبارك من فكرة إغلاق شواطئ بالكامل على ملاك العقارات فيها من الفيلات والشاليهات والشقق، وهكذا طاردوا المصريين في بحرهم وشواطئهم حتى أصبحت لافتة شاطئ عام واحدة من العجائب.. نعم انقلبت الأوضاع.
كان البحر مشاعا فأصبح ملكية خاصة، ولم يعد للمواطن الحق في الاستمتاع بما حبا الله بلاده من شواطئ لم يكن في الحسبان أن تصبح ملكية خاصة، وهو أمر ليس معروفا في كل بلاد العالم، على الضفة الأخرى من المتوسط لا يمكن لأى قرية على ضفافه أن تغلق الشاطئ أمام العامة، فالبحر لا يزال هناك ملكية عامة وحقا للجميع.
المصريون المطاردون في نسمة الهواء وحبة الرمال وصفاء الماء على شواطئ المتوسط والأحمر طالتهم يد المطاردة على نيلهم، عندما تشاهد فيلما مصريا قديما سترى البطل والبطلة وسترى الأسرة المصرية تخرج إلى شاطئ نهر النيل لتستمع به في أجواء إنسانية راقية.
سجنوا البحر واعتقلوا النيل، ولم يعد أمام المواطن العادى صاحب البلد الحقيقى موضع قدم، فإذا ما أردت أن ترى النيل فليس أمامك إلا الكبارى التى تحولت إلى متنزهات، حيث تفد إليها الأسر طمعا في لحظات هدوء وجمال ونسمة طبيعية أصبحت في عرف الأنظمة المتعاقبة خاضعة للحجب والاحتلال.
أذكر أن مواطنا عربيا التقيت بأسرته على نيل المعادى سألنى: من فضلك أين النيل؟ وأعقب ذلك قائلا: أريد أن أجلس مع أسرتى على ضفته؟ ابتلعت غصة في حلقى وأنا أقول له: النيل هنا خلف هذه الأسوار التى وضعوها وكتبوا عليها أسماء ملاهى وأندية محظور على غير أعضائها أن يدخلوها!
تابعت منذ أيام تلك الجلبة التى صاحبت تركيز الحكومة على عبارة يوجد شاطئ عام بالمجان، أدركت حجم الكارثة التى صرنا إليها، فبعد أن كان الأصل في الشواطئ أنها مجانية أصبح يشار إلى الوضع بعكس ما كان عليه.. أى والله!
ما معنى أن يتنقل المواطن المصرى من الإسكندرية ليجد في النهاية أن هناك شاطئا بالمجان، وهو صاحب البلد وصاحب البحر وصاحب النيل؟ وما هى دستورية إغلاق البحر أمام الشعب وتخصيص مساحة هامشية له بالمجان، والأصل في بلاد العالم كله أن البحر والنهر والمحيط للناس، كل الناس!
إن انتشار ثقافة الكمبوند ووضع الأسوار لتصنيف البشر طبقيا أمر مقيت، فما بالك عندما يصل الأمر إلى وضع أسوار حول البحار والأنهار والمحيطات التى خلقها الله للناس جميعا، ولا يمكن بأى حال من الأحوال أن يصبح البحر ملكية خاصة وأن يتحول النهر إلى سلعة غير متاحة إلا لعلية القوم! استفيقوا يرحمكم الله.