حصار القاهرة
دوائر الخطر تطبق أياديها على عنق مصر ودويلات صغيرة الشأن والحجم والقدرة باتت تعبث بأمننا القومي في العلن..
استجبت إلى دعوة للسفر إلى العاصمة الغانية أكرا، وعند وصولى إلى المطار لم أكن أعلم أنه يجب أن تكون بصحبتى شهادة تطعيم، ووجدت نفسى في مأزق بعد وضعى في منطقة عزل طبى مخصصة لكل من لم يحصل على التطعيم، أصبح الأمر أكثر تعقيدا وحاولت حل المشكلة دون جدوى.
اتجهت إلى قيادة أمنية كبيرة في المطار وناقشت معه الأمر، فقال إن التعليمات لابد من تنفيذها لأنها أمور تتعلق بالصحة، وفهمت أننى لابد من الحصول على التطعيم والبقاء بمنطقة العزل لفترة ثم الدخول إلى العاصمة وكان ذلك يعنى فقدانى لتفاصيل مهمة العمل التى جئت من أجلها.
فجأة سألنى الضابط: من أين جئت؟ قلت: من مصر، تهلل وجه الرجل وبدا أكثر ترحابا وهو يقول إذن أنت خالى، لم أفهم في بادئ الأمر ماذا يعنى بأننى في صلة القرابة خاله، وقد فهم الرجل أن شيئا ما غامضا حول ما قاله لي، فبدأ في سرد القصة.
حكى لى الضابط الكبير أن الزعيم الغانى العظيم نكروما تزوج بفتاة مصرية تدعى فتحية، وبالطبع تذكرت القصة التى يعرفها بكامل تفاصيلها جيلي، تزوج نكروما من فتحية الفتاة القبطية التى أدت أدوارا عظيمة في المجتمع الغانى وأحبها الناس هناك كما أحبتهم، ومن هذا التاريخ وقد أصبحت أنا وغيرى من المصريين «أخوال الغانيين»!
وتحمل الرجل على مسئوليته الشخصية فكرة التطعيم والدخول فورا إلى حيث مهمة العمل التى جئت من أجلها، وفي شوارع العاصمة الغانية أكرا وكانت المرة الأولى التى أزور فيها غانا رأيت بأم عينى شواهد مصرية من بنايات شاهقة ابتنتها السواعد المصرية في الحقبة الناصرية.
كان نضال مصر من أجل إفريقيا عندما كانت إفريقيا شأنا مصريا، وكانت مصر شأنا إفريقيا، دفعت مصر من أقوات أبنائها الكثير، ونالت الكثير من الاحترام في فترات الصعود الثورى ضد الاستعمار.. كانت القاهرة عاصمة التحرر الوطنى في إفريقيا وفي أمريكا الجنوبية وفي العالم العربي.
كانت القصص غير القصص، والحكايات غير الحكايات، وكانت مصر تمتلك من مراكز الدراسات والمؤسسات ما يجعلها في طليعة الأمم المطالبة بالتخلص من الاستعمار وتحرير البلدان، وكانت القاهرة عاصمة وقبلة يرتادها كل حر أبى يسعى لتحرير بلاده من الغصب الأوروبي.
شيئا فشيئا اتجهت القاهرة بعد معاهدة السلام إلى ضفة المتوسط الأوروبية، ولم يكن الخروج من إفريقيا دفعة واحدة، فقد اكتملت أركان الخروج المصرى من إفريقيا بعد حادث أديس أبابا وتعرض الرئيس الراحل محمد حسنى مبارك لمحاولة اغتيال، بعدها تغيرت البوصلة تماما وكانت هناك قوى شريرة أخرى تسكن غابات إفريقيا وأحلامها.
تعرضت العلاقات المصرية السودانية لطفرات خروج غير آمن كان بطلها جبهة الإنقاذ التى ظلت لسنوات تزرع في الأرض السودانية الطيبة نبتا من الكراهية، ولم تكن القاهرة على دراية كافية بما يجب أن تفعل ليظل السودان مصريا ومصر سودانية.
ودارت رحى معركة حامية الوطيس لطرد مصر من محيطها الإفريقى وأيضا العربي، ومع حالات الوهن المصرى استوحشت قوى أخرى على حدودنا، وبعد خسارة السودان خسرنا ميكانيزم العلاقة مع أديس أبابا، وعلى حدود غزة تنامت قوى مرتبطة بتنظيم عالمى ظهرت ملامحه القاسية عند سقوط نظام مرسي.
لم تكن عمليات الترميم الدبلوماسية المصرية تسير في الاتجاه الصحيح، أو بالأحرى عطبت آلة الدبلوماسية المصرية كثيرا بعد إسناد ملفات حساسة إلى عناصر لم تكن أهلا لها، وتراجع الدور المصرى بعد الانغماس في الداخل والتقوقع غير المبرر لكل أدوات الدولة المصرية في العمل على محيطها داخل حدود الأمن القومى المصري.
أقول دوما إن «المتغطى بالأمريكان» عريان، ونحن قد ألقينا بكل أغطيتنا التاريخية جانبا واحتفظنا بالعرى الأمريكي، ففقدنا كل ما كان لدينا من أدوات ستر الوطن وسد الفراغ الحاصل يوما بعد يوم.. تقزم دور مصر التى فرض عليها موقعها أن تكون فى مصاف الدول العملاقة أصلا.
على الجانب الآخر، تعملقت أقزام وطالت قامات دول صغيرة عنان السماء، والكل نال من مساحة التحرك المصرى ليبتنى لنفسه دورا، على المستوى العربى دارت معركة أخرى غير كل المعارك، أبطالها الجدد لا يملكون أدوات القوة غير أن أى فراغ تركته مصر شغله صبية صغار، نالوا أول ما نالوا من نصيب مصر ومن قدراتها ومن ساحاتها ومن ميادينها التى كانت فيها رائدة التحرك وصاحبة القرار.
وأمام حالة الإنهاك الاقتصادي غير المبررة والغرق في بحيرة الديون العفنة، منحنا بضعفنا وبسياسة مد الإيد كل أدوات قوتنا إلى غيرنا، ولم يكن المشترى الجديد للدور المصرى مترددا أمام الرغبة المصرية العارمة للاستدانة ثم الاستدانة حتى بتنا كأننا ننتج عصر الخديوى إسماعيل من جديد.
من لا يملك قوته لا يملك قراره، ونحن لم نفقد القوت، بل فقدنا أدوات صناعة القوت، وتركنا أمرنا للدائنين وسلمنا الراية لغيرنا من هؤلاء الذين كانوا ولا يزالوا يفتقدون القدرة على القيادة الرشيدة التى قامت بها مصر منذ التاريخ القديم لأمتها ولقارتها ولمحيطها.
بدأت دوائر الخطر تطبق أياديها على «عنق مصر» وبدا واضحا أن التطاول بلغ ذروته لدرجة أن دويلات صغيرة الشأن والحجم والقدرة باتت تعبث بأمننا القومى في العلن دون أن تخفى ذلك، إيمانا من القائمين عليها بأنها الفرصة الذهبية لكى تعلو هاماتهم وقاماتهم ليصبحوا في موقع مصر ومكانتها.
دويلات صغيرة تصب النار حمما في الجوار دعما بالمال والسلاح والحماية دون أن تخفى عنا معالم وجودها ونحن أمام ذلك لا نحرك ساكنا، قيدتنا الديون إلى حد الاستسلام، وعلى الطرف الآخر تصطلى غزة بنار العدوان وعلى مقربة منا يعود الكيان الصهيونى بجنوده وسلاحه ونحن لا نملك إلا أن نشجب ونطالب وندين.
أما ليبيا التى كانت يوما من الأيام امتدادا مصريا آمنا، وكنا نصفها بأنها الحد الأكثر أمانا وأنها العمق العربى الوحيد فكرا وهما وتوجها، لم تعد كذلك بعد أن تغافلنا عن وصول الأتراك إليها وبعد أن كانت القاهرة ملاذ الليبيين وبيتهم الثاني، صار للأتراك قدم على حدودنا.
كان البحر الأحمر هما مصريا وملفا مصريا وأمنه جزء لا يتجزأ من الأمن القومى المصري، وقد أصبح ساحة آمنة ومنطقة قواعد عسكرية لكل من هب ودب وأخيرا صار ميدان معركة تسبح فيه طائرات العدو الصهيونى لتضرب اليمن دون أن نحرك ساكنا!
كل الحدود غير آمنة، وكل طرق الحل ملغمة، وكل المآلات تصير إلى حيث الخطر الداهم، ووسط تحركات أقرب إلى السكون يتموضع الآخرون ويبنون لأنفسهم مواقع في المقدمة، ويبدو أننا غرقنا حتى الأنف في الحديث عن المؤامرة دون أن نتحرك لمواجهة الواقع.
إن الواقع الذى نعيشه الآن هو واقع حرب لامحالة، وإذا كنا دعاة سلام، فإن دعاة السلام لابد وأن يكونوا أبطال حرب وقادرين عليها وعلى الإمساك بزمامها وعلى خوضها إذا اقتضت الضرورة، والحرب ليست سلاحا وقنابل وصواريخ فالأدوات الدبلوماسية المصرية سحقت عدوا كان يقال عنه إنه لا يهزم.
أخذنا حقوقنا بالقتال حربا وسلما، وكانت القاهرة عاصمة الحوار وإدارة المعارك ولابد وأن تعود إلى عهدها.. لا نطالبكم بإعلان الحرب.. فقط نطالبكم بإعلان رفض الاستسلام لواقع يفرض فيه الأقزام قواعد اللعبة.. مصر كبيرة وقوية وقادرة وقوتها من إرادتها ومن موقعها، وموقعنا لم يتغير.. فقط الذي تغير هو سيطرة فكرة التراجع.