ألف طريقة سرية للبكاء
الحزن كائن متسلل، لا يطرق الباب ولا يستأذن بالدخول.. يظهر فجأة، ويستوطن أعماقنا، لكنه ليس دائمًا ضجيجًا يُسمع، ولا دموعًا تُرى.. أحيانًا يكون خافتًا، يختبئ في الزوايا المظلمة لروحنا، ويتركنا نبتكر ألف طريقة سرية للبكاء، لا تبدو ظاهرة للعيان، لكنها تنساب مثل شلالات خفية داخلنا.
هناك من يضحك بشكل هستيري، كأن الضحك هو الطريق الوحيد المتاح للنجاة. يمسك بطنه، يصفق بيديه، يبالغ في كل تفصيل كأنه في عرض كوميدي.. لكن خلف تلك الضحكات، تتراكم أوجاع تكاد تنفجر. الضحك الهستيري ليس سوى محاولة يائسة للقول: “أنا قوي بما يكفي لأخفي ضعفي”.
وهناك من يتحول إلى آلة للثرثرة، يتحدث بلا توقف عن كل ما يخطر بباله. يخوض حوارات طويلة عن موضوعات تافهة، عن لون الستائر الجديد، أو عن قصة قديمة فقدت أهميتها منذ زمن. هذه الكلمات التي لا تنتهي ليست سوى محاولة لملء فراغ داخلي مخيف، فراغ يبتلع كل ما يعجز عن البوح به.
بعضنا يجد في الغرباء نافذة صغيرة يطل منها على راحته. يحكي لشخص التقى به مصادفة في القطار، أو جلس بجواره في مقهى، عن أعمق أسراره. ربما لأن الغريب لا يحمل توقعات مسبقة، أو لأنه لن يعود إلى حياتنا مرة أخرى. الغرباء يصبحون شهودًا عابرين على أوجاعنا، دون أن يحملوا أعباءنا معهم.
وأحيانًا، نلجأ إلى أفعال تبدو تافهة في أعين الآخرين، لكنها تحمل معنًى كبيرًا لنا. تنظيف المنزل بجنون، ترتيب الملابس حسب الألوان، أو حتى تكرار كتابة قوائم لا حاجة إليها. هذه الأفعال ليست عبثًا، إنها محاولات لتنظيم الفوضى التي تعم أرواحنا.
البعض يختار الصمت، لكنه ليس صمتًا عاديًّا. إنه صمت مشبع بالحكايات غير المروية. نظرات طويلة نحو السماء أو الجدار، تأمل في اللاشيء، كأنهم يحاورون الحزن داخليًّا. هذا الصمت هو لغة الحزن حين يعجز عن التعبير بالكلمات.
آخرون يجدون ملاذهم في الفن. يمسك أحدهم فرشاة ويبدأ في الرسم، لا ليبدع لوحة، بل ليصب ألوانًا تعبر عن ألم لا يعرف اللغة. وآخر يعزف على آلة موسيقية بارتجال عشوائي، يترك لأنامله أن تبوح بما تعجز عنه شفاهه. الفن يصبح هنا وسيلة تفريغ، لغة غير مفهومة لكنها صادقة.
هل سبق لك أن وجدت نفسك تحدق إلى اللاشيء؟ ربما إلى نقطة بعيدة على الحائط، أو إلى أفق بعيد أثناء القيادة. الشرود هو طريقة أخرى للبكاء، صامتة تمامًا لكنها ثقيلة بالمعاني. نظل نحدق، نتنقل بين الأفكار دون أن نصل إلى أي مكان.
الحزن قد يدفعنا إلى تصرفات تبدو غريبة أو غير منطقية. قد يقرر أحدهم مشاهدة فيلم كوميدي ليبكي في أكثر المشاهد سخرية، أو قد يغني بصوت مرتجف وسط الشارع. هذه التصرفات ليست جنونًا، إنها صرخات غير مسموعة، طرق غير تقليدية للبكاء حين تخنقنا الدموع.
أحيانًا، نلجأ للحديث مع أنفسنا. نجلس في غرفة فارغة ونتحدث وكأننا نحاور شخصًا آخر. نُخرج الكلمات التي لا نجرؤ على قولها للآخرين. هذه المحادثات قد تكون أصدق ما نقوله في حياتنا، لأنها تخلو من الخوف أو التظاهر.
وأخيرًا، هناك من يختار المواجهة الصامتة. يجلس وحيدًا، يستمع لصوت الحزن داخله، يحاول فهمه بدلًا من الهروب منه. يكتب، يقرأ، أو حتى يحدق في ظلام غرفته. هذا النوع من البكاء السري هو الأكثر شجاعة، لأنه يواجه الجرح بدلًا من تغطيته.
يا صديقي، إن الحزن لا يرحل بسهولة، لكنه يعلمنا طرقًا جديدة لفهم أنفسنا، وكلما ابتكرنا طريقة سرية للبكاء، اكتشفنا جزءًا جديدًا من أعماقنا، وأصبحنا أقرب إلى الشفاء.