رئيس التحرير
عصام كامل

دع الحياة وابدأ القلق

عزيزي المشاهد، هل سئمت من البحث عن السعادة وتحقيق الذات والارتقاء بروحك وسط عواصف الحياة؟ هل يحرضك الجميع على عدم القلق وكأن هذا هو الحل السحري لمشاكلك النفسية والحياتية ووجع ظهرك؟ دعني أخبرك الحقيقة الأمر من فص اللبان الدكر، إن أردت العيش بشكل واقعي في هذا العالم، فأنت بحاجة إلى اعتماد القلق روتينا يوميا، ليس فقط كجزء من حياتك، بل كمرشدك الأول في رحلة البقاء.

 

لماذا؟ دعني آخذك في جولة سياحية لسبب القلق المثالي، ولنبدأ مثلا من حيث انتهى الأخ كارنيجي حين كتب كتابه –عقبال عندكم يا حبايب– الشهير: دع القلق وابدأ الحياة. لنجرب نحن: دع الحياة وابدأ القلق، فالحياة في زمننا لم تعد تفسح المجال للعقل لكي يستريح، بل تصر على أن تجعله وكأنه طوارئ قصر العيني في ليلة كحل.

 

يا عزيزي، لقد أصبح العالم أشبه بسوق خضار لا تخضع لرقابة، حيث كل يوم هناك جديد في الأسعار. لماذا تطمئن وأنت قد تستيقظ غدًا لتجد أن ثمن رغيف العيش تجاوز ثمن هاتفك؟ في هذه الحالة، القلق ليس خيارًا، ولا طماطم، بل ضرورة؛ فهو الذي سيحفزك للبحث عن وظائف إضافية، أو للبدء بتجربة أكلات جديدة تقتصر مكوناتها على الهواء الكرانشي والماء الجوسي.

 

زمان كان أجدادنا يواجهون الأمراض ببعض من العشب والخلطات السحرية، بينما نحن اليوم أمام طوابير الأمراض الفاخرة المستوردة والمنتجة محليًا. كل ما تلمسه، تأكله، تتنفسه، قد يحمل فيروسات من الجيل الخامس من الأمراض. أليس من الطبيعي أن تقلق وأنت تقرأ في الأخبار يوميًا عن مرضٍ جديد أو سلالة فيروسية متحورة؟ القلق هنا ليس سُنة، بل فرض عين على من يريد البقاء على قيد الحياة.

 

صحيح يا عزيزي أننا نعيش في عصر حيث يمكننا التواصل مع أي شخص في العالم عبر شاشاتنا، لكننا في الوقت نفسه أصبحنا أكثر عزلة من أي وقت مضى. تقول لنا التكنولوجيا إنها تسهّل الحياة وتجعلها أكثر متعة، لكنها في الواقع تُبقينا عالقين في فقاعات إلكترونية. بدلا عن السكينة.. 

تقدم لنا سحر القلق الدائم، من النوتيفيكيشنز، والرسائل، والتحديات الاجتماعية التي تجعلنا نشعر بأننا لسنا جيدين بما يكفي. لهذا وبكل أمانة عليك أن تقلق يا عزيزي، ليس فقط على الوقت الذي تضيعه، بل أيضًا على حياتك النفسية التي تتآكل ببطء تحت سطوة شاشات صغيرة.

 

أخبار العالم باتت مثل فيلم رعب بدون نهاية. كل الأماكن تضج بالصراعات، والتهديدات، والانقسامات، والتوقعات الغامقة كما تسبيكة العجائز. من القضايا العالمية حتى التحديات الاجتماعية، نُغرق في بحرٍ من التوتر، وحين نحاول الابتعاد نجد أنفسنا محاطين بمن يذكّرنا بأن القلق من أجل الوطن هو واجب وطني. هنا القلق ليس فقط مبررًا، بل رمز وطني أيضًا.

 

ولمن يظن أن الأطفال والشباب اليوم يعيشون بعيدًا عن القلق، فعليه أن يعيد النظر. اليوم، لم يعد القلق حكرًا على الكبار؛ الأجيال الجديدة ولدت ووجدت نفسها في عالم يموج بوسائل التواصل الاجتماعي، وتحديات الشهرة المزيفة، والمقارنات التي لا تنتهي. 

وعيال كبرت قبل أوانها يحلمون بتجربة حياة لا تقلق فيها، ليكتشفوا أن القلق أصبح جزءًا من هويتهم.. روتين يومي يعني كروتين حسناوات التيك توك المترهلات. فكيف لهم ألا يقلقوا وهم يضطرون لمواجهة عالم يسخر منهم إن لم يكونوا على أهبة الاستعداد، على الدوام، ليثبتوا نجاحهم للآخرين؟!

 

ثم يأتي القلق المجتمعي، وسع للوحش، الذي يتسرب إلى حياتنا عبر نوافذ التقاليد والمظاهر. ماذا سيقول الناس وطنط سعاد؟ هو شعار كافٍ لإدخال أي شخص في دوامة قلق لا تنتهي، يدفعه لأن يستهلك دون حاجة، ويتصرف دون قناعة، بل وحتى يعيش حياةً مزدوجة ليرضي الجميع.. الجميع إلا نفسه. القلق هنا صار أشبه بعبودية غير مباشرة؛ يجعلنا نحاول أن نحيا حياةً مثالية غير واقعية فقط لننال رضا من لا يهتم بنا حقًا.

 

 

لا شك أن القلق قد يبدو ثقلًا إضافيًا، ولكنه في الحقيقة دليل البقاء وسط فوضى هذا العالم. فحين تبدأ في القلق، تصير أكثر وعيًا، وأكثر استعدادًا لمواجهة ما قد يأتي. عوضًا عن أن تقرأ كتب السعادة الوهمية، قم باحتضان القلق، عش معه، وتقبله كرفيق دائم.. والسلام قد لا يكون ختام!

الجريدة الرسمية