سبحان من له الدوام
كتب الله عز وجل الموت والفناء على كل شيء في هذه الدار وانفرد سبحانه بالربوبية والبقاء، فما هو الموت وماذا بعده؟ الموت هو الحقيقة التي لا مراء فيها بل هو حقيقة الحقائق.. يقول الله تعالى (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ)، ويقول سبحانه وتعالى ( أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ).
هذا ومن المعلوم والمؤكد أن الآجال مقدرة أزلا بتقدير الله تعالى، وهو الذي لا تمت نفسا إلا بإذنه تعالى، يقول سبحانه (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا).
هذا وللموت مفهوم ظاهر ومعنى باطن عند أهل الحقيقة.. المفهوم الظاهر هو مفارقة الروح للجسد وتوقف القلب والجوارح عن العمل، وذلك لأن سر الحياة فينا الروح.. والمعنى الباطن هو موت القلب لغفلته وانقطاعه عن ذكر ربه.. أما الوفاة معناها إستيفاء الأجل الذي قدره الله تعالى وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم وعلى آله أنه قال: (موتوا من قبل أن تموتوا).
والمعنى هنا أميتوا حظوظ أنفسكم وأهواءها وحب الدنيا قبل أن تفارقوا الحياة.. والنوم حالة من حالات الوفاة لقوله تعالى: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).
هذا والحكمة الإلهية من خلق البشر ومن الموت والحياة هي إختبار الله لنا في هذه الدار ليبلونا سبحانه أينا أحسن عملا، كما جاء في قوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)..
هذا وعند مفارقة الإنسان هذه الحياة يرفع عنه الحجاب ويكشف عنه الغطاء، فيخرج من عالم التقييد أي من حواسه وإدراكه المقيد في حياته الدنيوية إلى حواس وإدراك مطلق في بداية حياته الأبدية، والقبر أول منازلها، ويقام في عالم الإطلاق وهو ما يسمى بعالم البرزخ، يقول عز وجل: (فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ).
وعالم البرزخ عالم فيه حياة، ففيه يشعر الإنسان بالسعادة والتنعيم إن كان من أهل الأيمان والتوحيد، أو أن يشعر بالشقاء والعذاب إن كان من أهل الكفر والشرك والإلحاد، لقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وعلى آله: (القبر أول منازل الآخرة وهو إما روضة من رياض الجنة وإما حفرة من حفر النار).
هذا ولعالم البرزخ أسرار كثيرة لا يعلمها ولا يكاشف بها إلا أهل السر من أهل ولاية الله تعالى.. والتي منها ما أخبر به النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وعلى آله عن سيدنا موسى عليه السلام، حيث قال (مررت بقبر أخي موسى فرأيته يصلي).. ومعنى ذلك أن السادة الأنبياء والأولياء لا تتوقف عبادتهم لله تعالى، وإشارة إلى أن صلتهم بربهم عز وجل لا تنقطع ولا تتوقف بعد وفاتهم، وأنهم قائمون في مقام العبودية في برازخهم، وهي عبودية محبة وتشريف لا عبودية أمر وتكليف..
وهناك حكاية عن الإمام أبو القاسم الجنيدي رضي الله عنه وهو أحد كبار العلماء والأولياء، يقول فيها: لما توفى شيخي الإمام السري السقطي فأقبلت لزيارته في قبره فرأيته قائما يصلي.. فقلت يا عماه أليست هذه دار الراحة والسعادة وليست دار التكليف.. فسمعته يقول.. يا جنيد لا زلنا في طلبه عز وجل وقيامي له سبحانه تشريف وليس تكليف..
ومن هذه الحكاية نعلم أن الأولياء على أقدام الأنبياء عليهم السلام وهم الوارثون لأحوالهم.. هذا وفي الختام أسأل الله تعالى لي ولكم ولجميع المسلمين أن يتوفانا على الإيمان وألا يتوفانا إلا وهو راض عنا وأن يختم لنا بالسعادة وأن يلحقنا بالصالحين.