الليلة الأخيرة، مشهد الوداع في حياة عبد الله بن عمر (2 – 2)
في هذه السلسلة، نتناول استعراضًا لليالي الأخيرة في حياة بعض الصالحين، ممن يصدُق عليهم ما نصفه بـ "حُسن الخاتمة"، والفراق الطيب، والرحيل الجميل، بعد حياة حافلة بالإيمان بالله ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم، وبالحسنات، والالتزام بآداب الإسلام، وتعاليم الشريعة السمحة.
كان ابن عمر نموذجا للإنسان المسلم، الورع، الزاهد في متاع الدنيا، الناصح الأمين لمن طلب المشورة.. ابتعد عن صراعات الحكم ونزاعات السلطة، ومع ذلك لم يسلم من إيذاء الحجاج الثقفي له، لمجرد أنه أبدى رأيه، معبرا عن امتعاضه من قتل عبد الله بن الزبير، فحرض الحجاج بعض جنوده ضده؛ ما أدى لقتله.. لم يرحم السفاح الآثم صحابيًّا، كان رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يحبه، وأبوه الفاروق، الخليفة العادل، ولم يرحم عجزه، فقد كان عبد الله قد كفَّ بصره في أواخر عمره.
ولشدة الأسى والأسف، فقد أمَّ الحجاج (القاتل) الصلاة على جثمان الشهيد الطاهر، ثم رفض تنفيذ وصيته بدفنه خارج الحرم!!
زهده وورعه
بلغ من زهد ابن عمر وورعه، أنه كان إذا أعجبه شيء من ماله تقرب به إلى الله عز وجل، وكان عبيده قد عرفوا ذلك منه، فربما لزم أحدهم المسجد فإذا رآه ابن عمر على تلك الحال أعتقه، فيقال له: إنهم يخدعونك، فيقول: من خدعنا لله انخدعنا له، وكان له جارية يحبها كثيرا فأعتقها وزوجها لمولاه نافع، وقال: إن الله تعالى يقول "لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ". (آل عمران: 92).
واشترى مرة بعيرًا فأعجبه لمَّا ركبه فقال: يا نافع أدخله في إبل الصدقة.
وأعطاه ابن جعفر في نافع (خادمه) عشرة آلاف، فقال: أوَ خيرًا من ذلك؟ هو حرٌّ لوجه الله.
واشترى مرة غلامًا بأربعين ألفًا وأعتقه، فقال الغلام: يا مولاي قد أعتقتني فهب لي شيئًا أعيش به فأعطاه أربعين ألفًا.
واشترى مرة خمسة عبيد فقام يصلي فقاموا خلفه يصلون فقال: لمن صليتم هذه الصلاة؟ فقالوا: لله! فقال: أنتم أحرار لمن صليتم له، فأعتقهم.
مات بعد أن أعتق ألف رقبة، وربما تصدَّق في المجلس الواحد بثلاثين ألفًا، وكانت تمضي عليه الأيام الكثيرة والشهرُ لا يذوق فيه لحمًا إلا وعلى يديه يتيمٌ.
وكان رضي الله عنه كثير الإنفاق في وجوه الخير. قال ميمون بن مهران: أتاه اثنان وعشرون ألف دينار في مجلس فلم يقم حتى فرقها، وذكر عنه ابن شعبان: أنه اعتمر ألف عمرة وكان من أكرم أهل زمانه.
وعن مالك: أنه حج ستين حجة وأعتق ألف رأس وحبس ألف فرس.
كان عبد الله ابن عمر، رضي الله عنهما، خائفًا من أن يقال له يوم القيامة: "أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا". (الأحقاف: 20).
كما كان يقول عن نفسه: "وَاللَّهِ مَا وَضَعْتُ لَبِنَةً عَلَى لَبِنَةٍ وَلَا غَرَسْتُ نَخْلَةً مُنْذُ قُبِضَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
وعن جابر بن عبد الله، رضي الله عنهما، قال: "مَا مِنَّا أَحَدٌ أَدْرَكَ الدُّنْيَا إِلَّا قَدْ مَالَتْ بِهِ وَمَالَ بِهَا إِلَّا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا".
وصية النبي له
وعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِبَعْضِ جَسَدِي، فَقَالَ: "يَا عَبْدَ اللَّهِ، كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ كَأَنَّكَ عَابِرُ سَبِيلٍ، وَعُدَّ نَفْسَكَ مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ".
ثُمَّ قَالَ لِي: "يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلا دِرْهَمٌ، إِنَّما هِيَ حَسَنَاتٌ وَسَيِّئَاتٌ، جَزَاءٌ بِجَزَاءٍ، وَقِصَاصٌ بِقِصَاصٍ، وَلا تَتَبَرَّأْ مِنْ وَلَدِكَ فِي الدُّنْيَا، فَيَتَبَرَّإِ اللَّهُ مِنْكَ فِي الآخِرَةِ، فَيَفْضَحْكَ عَلَى رُءُوسِ الأَشْهَادِ، وَمَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلاءَ لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
ويقول ميمون بن مهران: "دخلتُ على ابن عمر، فقَوَّمتُ (ثَمّنْتُ) كلَّ شيء في بيته من فراش ولحاف وبساط، ومن كل شيء فيه، فما وجدته يساوي مائة درهم".
زهده في السلطة
عُرضتْ عليه الخلافة عدة مرات فلم يقبلها، فعَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: "لَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ رِضْوَانُ اللَّهُ عَلَيْهِ جَاءَ النَّاسُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رِضْوَانُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَقَالُوا لَهُ: أَنْتَ سَيِّدُ النَّاسِ، وَابْنُ سَيِّدِهِمْ، فَاخْرُجْ بِنَا حَتَّى نُبَايِعَ لَكَ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَمَا وَاللَّهِ مَا دَامَ فِيَّ رَوْحٌ فَلَنْ يُهَرَاقَ فِيَّ مِحْجَمَةٌ مِنْ دَمٍ، فَعَاوَدُوهُ فَقَالُوا: إِنْ لَمْ تَخْرُجْ قَتَلْنَاكَ عَلَى فِرَاشِكَ، فَأَعَادَ لَهُمُ الْكَلَامَ مِثْلَ مَا قَالَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى".
وعن الْمُطْعِمُ بْنُ الْمِقْدَامِ الصَّنْعَانِيُّ، قَالَ: "كَتَبَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بَلَغَنِي أَنَّكَ طَلَبْتَ الْخِلَافَةَ، وَإِنَّ الْخِلَافَةَ لَا تَصْلُحُ لِعَيِيٍّ، وَلَا بَخِيلٍ، وَلَا غَيُورٍ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عُمَرَ: أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنَ الْخِلَافَةِ أَنِّي طَلَبْتُهَا فَمَا طَلَبْتُهَا، وَمَا هِيَ مِنْ بَالِي، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنَ الْعِيِّ، وَالْبُخْلِ، وَالْغَيْرَةِ، فَإِنَّ مَنْ جَمَعَ كِتَابَ اللهِ فَلَيْسَ بِعَيِيٍّ، وَمَنْ أَدَّى زَكَاةَ مَالِهِ فَلَيْسَ بِبَخِيلٍ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنَ الْغَيْرَةِ فَإِنَّ أَحَقَّ مَا غِرْتُ فِيهِ وَلَدِي أَنْ يُشْرِكَنِي فِيهِ غَيْرِي".
واستقر الأمر لمعاوية ومن بعده لابنه يزيد، ثم ترك معاوية الثاني ابن يزيد الخلافة زاهدًا فيها بعد أيام من توليه، وكان عبد الله بن عمر شيخًا مسنًّا كبيرًا، فذهب إليه مروان بن الحكم، وقال له: "هَلُمَّ يَدَكَ نُبَايِعْ لَكَ، فَإِنَّكَ سَيِّدُ الْعَرَبِ، وَابْنُ سَيِّدِهَا، قَالَ: قَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: كَيْفَ أَصْنَعُ بِأَهْلِ الْمَشْرِقِ؟! قَالَ: تَضْرِبُهُمْ حَتَّى يُبَايِعُوا، قَالَ: وَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنَّهَا دَانَتْ لِي سَبْعِينَ سَنَةً، وَأَنَّهُ قُتِلَ فِي سَبَبِي رَجُلٌ وَاحِدٌ". فانصرف عنه مروان.
موقفه من الفتنة
اعتزل أكثر الصحابة الفتنة وأبَوا أن يخوضوا في دماء المسلمين، ومنهم عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، فقد حرص على ألا يقترب من الفتنة أبدًا، ورفض استعمال القوة والسيف في الفتنة المسلحة بين عليٍّ ومعاوية، وكان الحياد شعاره ونهجه، فقيل له: "أتصلِّي مع هؤلاء ومع هؤلاء وبعضهم يقتل بعضا؟! فقال: من قال حي على الصلاة، أجبته، ومن قال حي على الفلاح، أجبته. ومن قال حي على قتل أخيك المسلم وأخذ ماله، قلت: لا".
مقتله
عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "كَانَ زُجُّ (طرف) رُمْحِ (مسموم) رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ الْحَجَّاجِ قَدْ أَصَابَ رِجْلَ ابْنِ عُمَرَ (بتحرض من الحجاج) فَانْدَمَلَ الْجُرْحُ، فَلَمَّا صَدَرَ النَّاسُ (انصرفوا) انْتَفَض عَلَى ابْنِ عُمَرَ جُرْحُه، فَلَمَّا نَزَل بِهِ دَخَلَ الْحَجَّاجُ عَلَيْه يَعُودُهُ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ الَّذِي أَصَابَكَ مَنْ هُوَ؟ قَالَ: أَنْتَ قَتَلْتَنِي، قَالَ: وَفِيمَ؟! قَالَ: حَمَلْتَ السِّلَاحَ فِي حَرَمِ اللَّهِ، فَأَصَابَنِي بَعْضُ أَصْحَابِكَ.
فَلَمَّا حَضَرَتِ ابْنَ عُمَرَ الْوَفَاةُ أَوْصَى أَنْ لَا يُدْفَنَ فِي الْحَرَمِ، وَأَنْ يُدْفَنَ خَارِجًا مِنَ الْحَرَمِ، فَغُلِبَ، فَدُفِنَ فِي الْحَرَمِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ الْحَجَّاجُ".
وهناك رواية أخرى في موت ابن عمر، تقول: حدثناه الشيخ أبو محمد المزني، ثنا القاضي أبو خليفة، ثنا إبراهيم بن أبي سويد الذراع، ثنا عمارة بن زاذان، حدثني مكحول، قال: بينا أنا مع ابن عمر إذ نصب الحجاج المنجنيق على الكعبة وقتل عبد الله بن الزبير.
فأنكر ابن عمر ذلك وتكلم بما ساء سماعه، فأمر الحجاج بقتله، فضربه رجلٌ من أهل الشام ضربة، فلما بلغ الحجاج قصده (توجه إليه) عائدا، فقال له ابن عمر: أنت قتلتني، والآن تجيئني عائدا كفى بالله حكما بيني وبينك.
وعن شُرَحْبِيلُ بْنُ أَبِي عَوْنٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "قالَ ابْنَ عُمَرَ عِنْدَ الْمَوْتِ لِسَالِمٍ: يَا بُنَيَّ إِنْ أَنَا مِتُّ، فَادْفِنِّي خَارِجًا مِنَ الْحَرَمِ، فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُدْفَنَ فِيهِ بَعْدَ أَنْ خَرَجْتُ مِنْهُ مُهَاجِرًا، فَقَالَ: يَا أَبَتِ إِنْ قَدِرْنَا عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ: تَسْمَعُنِي أَقُولُ لَكَ وَتَقُولُ: إِنْ قَدِرْنَا عَلَى ذَلِكَ؟ قَالَ: أَقُولُ الْحَجَّاجُ يَغْلِبُنَا فَيُصَلِّي عَلَيْكَ، قَالَ: فَسَكَتَ ابْنُ عُمَرَ".
وعَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ مَنِيَّتِي بِمَكَّةَ".
وقد توفي عبد الله، رضي الله عنه، بمكة سنة ثلاث وسبعين، وهو المشهور بين المؤرخين، وقيل: سنة أربع وسبعين، وقد مات وهو ابْنُ أربع وثمانين سنة.
ودفن بفخ، وقيل بالمحصب، وقيل بذي طوى، وقيل: بسرف، وهو آخر من مات بمكة من الصّحابة، وَكَانَ قد عمي قبل وفاته.
أقوال الصحابة والتابعين في عبد الله
كان لكثير من الصحابة والتابعين بعض الأقوال التي أثنوا بها على عبد الله بن عمر، ومن هذه الأقول ما قاله ابن مسعود: "إِنَّ مِنْ أَمْلَكِ شَبَابِ قُرَيْشٍ لِنَفْسِهِ عَنِ الدُّنْيَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ".
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «مَا مِنَّا أَحَدٌ أَدْرَكَ الدُّنْيَا إِلَّا قَدْ مَالَتْ بِهِ وَمَالَ بِهَا إِلَّا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا».
وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: "ما رأيت أحدًا ألزم للأمر الأول من ابن عمر".
قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: "مَاتَ ابْنُ عُمَرَ وَهُوَ فِي الْفَضْلِ مِثْلُ أَبِيهِ".
قَالَ قَتَادَةُ: "سَمِعْتُ ابْنَ المُسَيِّبِ يَقُوْلُ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَوْمَ مَاتَ خير من بقي".
وقال مَيْمُون بْن مهران: "ما رأيت أورع من ابْن عُمَر".
عن عمرو بن دينار قال:"كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُعَدُّ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَحْدَاثِ".
ونقدم لكم من خلال موقع (فيتو)، تغطية ورصدًا مستمرًّا على مدار الـ 24 ساعة لـ أسعار الذهب، أسعار اللحوم ، أسعار الدولار ، أسعار اليورو ، أسعار العملات ، أخبار الرياضة ، أخبار مصر، أخبار اقتصاد ، أخبار المحافظات ، أخبار السياسة، أخبار الحوداث ، ويقوم فريقنا بمتابعة حصرية لجميع الدوريات العالمية مثل الدوري الإنجليزي ، الدوري الإيطالي ، الدوري المصري، دوري أبطال أوروبا ، دوري أبطال أفريقيا ، دوري أبطال آسيا ، والأحداث الهامة و السياسة الخارجية والداخلية بالإضافة للنقل الحصري لـ أخبار الفن والعديد من الأنشطة الثقافية والأدبية.
تابع موقع فيتو عبر قناة (يوتيوب) اضغط هــــــــــــنا
تابع موقع فيتو عبر قناة (واتساب) اضغط هــــــــــــنا
تابع موقع فيتو عبر تطبيق (نبض) اضغط هــــــــــنا
تابع موقع فيتو عبر تطبيق (جوجل نيوز) اضغط هــــــــنا