الفن وسنينه
أعطوا العيش لخبازه!
في أوروبا والدول المتقدمة كل شخص من أفراد المجتمع يوضع في مكانه الصحيح تمامًا، اللهم إلا حالات واستثناءات قليلة جدًا لا تشكل نسبة تذكر وبالتالي لا تؤثر على السياق العام، كل شخص في المجتمع توكل إليه مهمة ووظيفة يضطلع بها وبواجباتها على أكمل وجه وبكل إخلاص وجد، كونه مؤهلًا لها تمامًا ومتخصصًا فيها، حيث إن هذه المجتمعات المتحضرة المتطورة تؤمن أشد الإيمان بمبدأ التخصص في جميع مجالات الحياة..
فكل إنسان له مواهب وقدرات ومؤهلات خاصة في مجال معين يجب أن يتخصص فيه ويلتزم به، حتى يعطي ويبدع فيه، كي يفيد المنظومة التي يعمل بها أيما إفادة بصفة خاصة ومجتمعه وبلده بصفة عامة، وفي هذه الأحوال تكاد تختفي عوامل الواسطة والمحسوبية والعشوائية وتفضيل أهل الثقة على أهل الخبرة والكفاءة، التي هي للأسف أساس ومنهج مجتمعاتنا العربية ودول العالم الثالث..
وسبب رئيس مع أسباب أخرى عديدة في تراجعنا وتخلفنا بسنوات ضوئية عن دول العالم المتقدمة، في كافة نواحي الحياة الاقتصادية والعلمية والاجتماعية والسياسية والثقافيةو الإعلامية والفنية إلى أخره، والأخيرة لنا معها وقفة في السطور التالية.
الشللية والواسطة
تعرضنا كثيرًا لموضوع الشللية والواسطة في الوسط الفني والإعلامي، وقلنا أنه آفة هذا الوسط وخطيئته الكبرى، التي أفسدت كل شيء فيه وقضت على اليابس والماء وتركته يعاني من أمراض مزمنة ومشاكل لا حصر لها، انعكست بشكل سلبي جدًا على مستوى كل ما يقدم من أعمال فنية ومن برامج بعيدة كل البعد عما يحتاجه الناس، بل وكثيرا ما تسيء لهم وتستخف بعقولهم وتضحك عليهم!
ومرجع كل هذا إلى احتكار حفنة قليلة جدًا من الشركات والكيانات حديثة العهد والخبرة ومحدودة الكفاءة للعملية الإنتاجية بكل عناصرها، من فنانين ومخرجين ومؤلفين وفنيين ومحطات ومذيعين وكوادر..
حيث يقومون بالاعتماد فقط على المقربين منهم ومن أعضاء شللهم وممن يدينون لهم بالولاء ويداهنونهم ويطبلون لهم على طول الخط، وأغلبهم من محدودي الموهبة والقدرات! في حين يتجاهلون مع سبق الإصرار أصحاب المواهب والكفاءة الحقيقيين في مختلف فروع الفن والإعلام..
ومعظم القائمين على هذه الشركات والكيانات لا يتسمون بالتخصص والمواصفات التي يجب توافرها فيمن يتصدى لهذه المهام، ومن ثم تأتي النتائج والرياح بما لاتشتهي السفن، لأن فاقد الشيء لا يعطيه بالطبع.
العيش والخباز
وبإطلالة سريعة عن دفتر أحوال وحال الفن في مصر في السنوات الأخيرة، سنجد أنه قد شهد تراجعًا مخيفًا كمًا وكيفًا، سواء على مستوى الدراما التليفزيونية التي كانت تنتح نحو 70 عملًا في شهر رمضان من كل عام متنوعا بين الكوميديا والتراجيديا الإنسانية والأعمال الدينية والتاريخية والفوازير..
فصارت منذ أحداث يناير 2011 لا تزيد عن 30 عملًا فقط أغلبها مسلسلات كوميدية وجريمة وبلطجة وعنف وتشويه للقيم والعادات والتقاليد المتوارثة!
وعلى مستوى السينما التي تمتلك فيها مصر تاريخًا حافلًا ومضيئا، أصبح الحاضر والمستقبل الخاص بها لا معالم له، فبعد أننا كنا نتباهى بتقديم أكثر من مائة فيلم في العام الواحد أغلبها أعمال جيدة ومحترمة أضحينا لا نشاهد أكثر من 25 أو 30 فيلما سنويًا على الأكثر، ومعظمها دون المستوى، يسيطر عليها اللون الكوميدي الذي يعتمد على الإفيه والنكتة لانتزاع الضحك من المشاهدين دون أن يفلح في ذلك! أبطال هذه الأعمال لا علاقة لأغلبهم بالفن من قريب أو من بعيد!
كذلك نجد أن أغلب المسؤولين عن تأسيس أو إدارة أو تنظيم المهرجانات الفنية وما أكثرها بمصر في السنوات الأخيرة من غير المتخصصين في الفن بمختلف فروعه، بل هم من الهواة الباحثين عن الشهرة والمال أو من محاسيب أصحاب النفوذ والسلطة، والنتيجة احتفالات وريد كاربت وتكريمات ومجاملات وجوائز لا قيمة لأغلبها، ومظاهر لا تفيد الفن ولا تحقق الهدف المأمول منها!
أما بالنسبة للإعلام والبرامج فأصبحت لغته السائدة بعد يناير 2011 عند غالبية المذيعين هي الصوت العالي، والزعيق والتطبيل والنفاق والرياء وتشويه الحقائق، ولوي عنقها والكذب من أجل مداهنة وكسب ود المسؤولين الكبار وأصحاب النفوذ والسلطان، والقائمين على المحطات والمؤسسات الإعلامية سواء عامة أو خاصة أو عربية! وذلك للحفاظ على مكتسباتهم ومواقعهم وزيادة ثرواتهم!
ومن ثم شاهدنا ومازلنا وجوها إعلامية مشوهة متلونة تجاوزها الزمن وعفا عليها ولفظها الناس، ولكنهم مازالوا يقاومون ويكابرون ويفرضون علينا فرضًا!
ولكن أخيرا ماذا لو نعطي العيش لخبازه ونضع كل شخص في مكانه الصحيح الذي يناسبه، وهو مؤهل له مثلما يحدث في أوروبا والدول المتقدمة؟!