رئيس التحرير
عصام كامل

الليلة الأخيرة، مشهد الوداع في حياة أبي ذر الغفاري

مسجد أبي ذر الغفاري
مسجد أبي ذر الغفاري في الربذة، فيتو

في هذه السلسلة، نتناول استعراضا لليالي الأخيرة في حياة بعض الصالحين، ممن يصدُق عليهم ما نصفه بـ "حُسن الخاتمة"، والفراق الطيب، والرحيل الجميل، بعد حياة حافلة بالإيمان بالله ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم، وبالحسنات، والالتزام بآداب الإسلام، وتعاليم الشريعة السمحة.

وصفه رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بأنه أصدق أهل الأرض لهجة.. وبشره بأنه سيموت وحده، ويُبعث يوم القيامة وحده، رضي الله عن سيدنا أبي ذر الغفاري.
وفي ساعاته الأخيرة، قبل أن يفارق الدنيا، بكت الزوجة المخلصة، فيما كان زوجها الصحابي الجليل يحتضر، فسألها: ما يبكيكِ؟
قالت: تموتَ هنا في صحراء الربذة، لا ثوب نُكفِّنك فيه ولا أحد يُصلي عليك.
فقال لها: أبشري؛ هذا ما بشرني به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ذات يوم، فقد كنتُ أنا وفلان وفلان وفلان.. وسماهم بالاسم، ودخل علينا النبي، فقال: "سيموت رجل منكم بالصحراء، وسيصلي عليه جماعة عظيمة من المؤمنين".
وقد مات جميع الصحابة الذين كانوا معي أثناء تلك البشرى النبوية، ولم يبق إلا أنا، فأنا المقصود من تلك البشرى.
فقالت: وماذا أفعل الآن؟!
قال وهو يجود بأنفاسه الأخيرة: ضعيني على قارعة الطريق، فأول ركب قادم سيكونون من كبار الصحابة الذين بشر بهم النبي، صلي الله عليه وسلم، وسيصلون عليَّ.
ولم يمض وقت طويل حتى مر وفد قادم من العراق من الصحابة، وفي مقدمتهم عبد الله بن مسعود وكبار الأنصار، رضي الله عنهم جميعا، فسألوها: ما يبكيكِ؟
قالت: هذا زوجي أبو ذر، صاحب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لا نجد ثوبا نكفنه فيه.
فتسابق الأنصار من يكفنه في ثوبه... فكفنوه ثم صلوا عليه جميعا، ودعوا له بالجنة والمغفرة.

لم يسجد لصنم

حتى قبل الإسلام كان موحدًا ولا يعبد الأصنام.. هو أبو ذر الغفاري، رضي الله عنه.. جندب بن جنادة الغفاري (المتوفى سنة 32 هـ) صحابي من السابقين إلى الإسلام قيل رابع أو خامس من دخل في الإسلام، في سن الشباب، وأحد الذين جهروا بالإسلام في مكة قبل الهجرة النبوية.. قال عنه الذهبي في ترجمته له في كتابه "سير أعلام النبلاء": "كان رأسًا في الزُهد، والصدق، والعلم والعمل، قوّالًا بالحق، لا تأخذه في الله لومة لائم، على حِدّةٍ فيه".

قاطع الطريق

نشأ أبو ذر الغفاري في مضارب قبيلته غِفار أحد بطون بني بكر بن عبد مناة بن كنانة، والتي كانت مضاربها على طريق القوافل بين اليمن والشام، واشتهرت بالسطو على القوافل.

 

طالع للمزيد: الليلة الأخيرة، مشهد الوداع في حياة السيدة فاطمة الزهراء

 

كان أبو ذر الغفاري في الجاهلية يتكسب من قطع الطريق، وعُرفت عنه شجاعته في ذلك فكان يغير بمفرده في وضح النهار على ظهر فرسه، فيجتاز الحي ويأخذ ما أخذ. وعلى الرغم من مهنته تلك، كان موحدًا ولا يعبد الأصنام، وحين بلغته الأخبار بأن هناك نبيًّا يدعو للتوحيد في مكة سارع إلى الإسلام، فكان من السابقين إلى الإسلام.

إسلامه

أما قصة إسلامه، فقد جاءت على روايتين، الأولى أنه بلغه مبعث النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال لأخيه أنيس: "اركب إلى هذا الوادي، فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء، واسمع من قوله ثم ائتني".
فانطلق أنيس وسمع قوله، ثم رجع إلى أبي ذر، فقال له: "رأيته يأمر بمكارم الأخلاق ويقول كلامًا ما هو بالشعر"، فقال أبو ذر: "ما شفيتني مما أردت".
فتزوّد أبو ذر وقدم مكة، والتمس خبر رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وهو لا يعرفه، وكره أن يسأل عنه حتى أدركه بعض الليل، فاضطجع فرآه عليٌّ بن أبي طالب، فعرف أنه غريب، فلما رآه تبعه واستضافه ثلاثة أيام، ثم سأله عن سبب قدومه، قال أبو ذر: "إن أعطيتني عهدًا وميثاقًا أن ترشدني، فعلت".

مشهد الوداع في حياة أبي ذر الغفاري، فيتو
مشهد الوداع في حياة أبي ذر الغفاري، فيتو


ففعل عليٌّ فأخبره، فقال: "إنه حقّ وإنه رسول الله فإذا أصبحت فاتبعني فإني إن رأيت شيئًا أخافه عليك قمت كأني أريق الماء فإن مضيتُ فاتبعني حتى تدخل مدخلي. ففعل وانطلق يلحق به حتى دخل على الرسول، صلى الله عليه وسلم، وسمع من قوله فأسلم لوقته، ثم أمره النبي قائلًا: "ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري".
فقال أبو ذر: "والذي نفسي بيده لأصرخن بها بين ظهرانيهم".
فخرج حتى أتاهم فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله.
فقام القوم إليه فضربوه حتى أضجعوه، وأتى العباس فأكب عليه. وقال: "ويلكم، ألستم تعلمون أنه من غِفار وأنه من طريق تجارتكم إلى الشام فأنقذه منهم".

انطلق بعدها أبو ذر إلى قومه امتثالًا لأمر النبي، صلى الله عليه وسلم، بدعوتهم إلى الإسلام، وقد لبّى نصف قومه دعوته إلى الإسلام. وأقام فيهم يقيم معهم شعائر الإسلام، يؤمهم كبيرهم إيماء بن رحضة الغفاري.
وبقي النصف الآخر على دينه حتى هاجر، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى يثرب فأسلموا، وتبعتهم قبيلة "أسلم".
ثم وفدوا على سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، وفيهم أبو ذر الغفاري، فدعا لهم النبي، فقال: "غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله".
وكان مقدم أبي ذر على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في المدينة المنورة بعد غزوتي بدر وأحد.
وما إن هاجر أبو ذر حتى لازم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وشاركه في غزواته.
وحمل أبو ذر راية قبيلته غفار يوم حنين، ولما انطلق النفير ليجمع الرجال للمسير إلى قتال الروم في غزوة تبوك تحسس المسلمون المتخلفين عن الغزوة ليخبروا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فيقولون: "يا رسول الله تخلّف فلان"، فيقول: دعوه إن يكن فيه خير فسيلحقكم، وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم الله منه، حتى قيل: "يا رسول الله تخلف أبو ذر".
وكان بعير أبي ذر قد أبطأ به، فقرر أن يأخذ متاعه فجعله على ظهره، وخرج يتبع الجيش، ونظر ناظر فقال: إن هذا لرجل يمشي على الطريق.
فقال رسول الله: "كن أبا ذر"، فلما تأمله القوم قالوا: هو والله أبو ذر.. فقال رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: "رحم الله أبا ذر؛ يمشي وحده ويموت وحده ويُبعث وحده".

في الفتوحات

بعد انتقال رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، شارك أبو ذر في الفتح الإسلامي للشام، وشهد فتح بيت المقدس مع عمر بن الخطاب.
وبعد الفتح أقام في الشام يُفتي الناس ويُعلّمهم أمور دينهم ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ولكن في حِدّة تسببت حدته تلك في فساد العلاقة مع معاوية والي الشام، حين اختلفوا في آية "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ"، فيمن نزلت.
حيث قال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، بينما قال أبو ذر نزلت فينا وفيهم.
فكتب معاوية يشكوه إلى الخليفة عثمان بن عفان بأنه أفسد عليه الشام، فطلبه عثمان فخرج أبو ذر إلى المدينة.

خلافه مع عثمان

أقام أبو ذر في المدينة يدعو الناس بالمنهج نفسه؛ مما دعا الخليفة عثمان لمعاملته معاملة خاصة يغالبها الحذر. حتى إذا كان يوم كان فيه أبو ذر عند باب عثمان ليؤذن له إذ مر به رجل من قريش، فقال: يا أبا ذر ما يُجلسك ها هنا؟
قال أبو ذر: يأبى هؤلاء أن يأذنوا لنا، فدخل الرجل فقال: يا أمير المؤمنين، ما بال أبي ذر على الباب فأذن له؟
فجاء حتى جلس، فإذا عثمان يسأل كعب الأحبار في ميراث يُقسّم: "أرأيت المال إذا أدى زكاته، هل يخشى على صاحبه فيه تبعة؟"، فقال كعب: لا، فقام أبو ذر فضربه بعصا، ثم قال: "يا ابن اليهودية، تزعم أن ليس عليه حق في ماله، إذا آتى زكاته، والله يقول: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.. ويقول: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا".

الربذة.. منفى اختياري

وجعل يذكر نحو ذلك من القرآن، فقال عثمان للقرشي: "إنما نكرهُ أن نأذن لأبي ذر من أجل ما ترى"، لم يستطع أبو ذر أن يتأقلم مع ذلك، واستأذن عثمان للخروج للإقامة في الربذة، وأخبره أن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، "أمره بالخروج من المدينة إذا بلغ البناء سلعًا"، أي إذا وصلت البيوت والمباني في المدينة المنورة إلى جبل "سلع"، وهو جبل يوجد على حدود المدينة المنورة.. فأذن له عثمان، فخرج إليها.

وتعد "الربذة" مدينة تاريخية، كانت لها مكانة كبيرة، خاصة في العهدين الأموي والعباسي، حيث كانت مركزًا للثقافة والاقتصاد وطريقًا للحجاج العراقيين.

وتقع "الربذة" إلى الشرق من المدينة المنورة بحوالي 200 كم، وكان أبو ذر الغفاري، رضي الله عنه، أول من استوطنها عام 30 هجريًا.

وبعد أن وصل أبو ذر، رضي الله عنه، إلى "الربذة" بنى فيها مسجدًا خطَّه بنفسه، ومنحه عثمان  بعضًا من الإبل ومملوكين. وظل فيها حتى مات وحيدًا. 

وفاته

توفي أبو ذر الغفاري في ذي الحجة سنة 32 هـ.
وكان أبو ذر لما حضرته الوفاة قد أوصى امرأته وغلامه، فقال: إذا مت فغسِّلاني وكفِّناني وضعاني على الطريق، فأول ركب يمرون بكم فقولا هذا أبو ذر.

فلما مات فعلا به ذلك فإذا ركبٌ من أهل الكوفة فيهم عبد الله بن مسعود، فسأل: ما هذا؟
قيل: جنازة أبي ذر.. فبكى ابن مسعود، وتذكر قول النبي، صلى الله عليه وآله وسلم: "يرحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده". فصلى عليه وألحده بنفسه.


رحم الله أبا ذر، فقد كان النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، يبتدؤه إذا حضر ويتفقده إذا غاب، كما أردفه خلفه يومًا على دابته، وقد سمع عبد الله بن عمرو بن العاص، رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: "ما أقلت الغبراء، ولا أظلت الخضراء من رجل أصدق لهجة من أبي ذر"، ويروي أبو هريرة عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قوله: "من سره أن ينظر إلى تواضع عيسى بن مريم، فلينظر إلى أبي ذر".
وقال عنه علي بن أبي طالب: "لم يبق أحد لا يبالي في الله لومة لائم، غير أبي ذر"، ثم ضرب بيده على صدره وقال: ولا نفسي.


ونقدم لكم من خلال موقع (فيتو)، تغطية ورصدًا مستمرًّا على مدار الـ 24 ساعة لـ أسعار الذهب، أسعار اللحوم ، أسعار الدولار ، أسعار اليورو ، أسعار العملات ، أخبار الرياضة ، أخبار مصر، أخبار اقتصاد ، أخبار المحافظات ، أخبار السياسة، أخبار الحوادث ، ويقوم فريقنا بمتابعة حصرية لجميع الدوريات العالمية مثل الدوري الإنجليزي ، الدوري الإيطالي ، الدوري المصري، دوري أبطال أوروبا ، دوري أبطال أفريقيا ، دوري أبطال آسيا ، والأحداث الهامة و السياسة الخارجية والداخلية بالإضافة للنقل الحصري لـ أخبار الفن والعديد من الأنشطة الثقافية والأدبية.

الجريدة الرسمية