أصحاب المفاخر وأصحاب المباخر (2)
ما أجمل قول القائل: لم أر باكيا أحسن تبسما من القلم؛ فدموع القلم تروى العقول وبها يسطع نور الحقيقة وتنجلى ظلمات الجهل وتنقشع الأوهام للاستيقاظ من الغفلة.. فهناك قلم يعزف، وقلم مدهش، وقلم منعش، وهناك قلم ظاهر، وقلم قاهر، وآخر طاهر، وهناك قلم متطور، وآخر متورط..
وهناك قلم ممتع، وآخر معتم.. وهناك قلم حزين، وآخر يتألم وقلم يبعث الضوء، وقلم ينفث السوء.. تعددت الأقلام والحبر واحد.. فاحرص على الصدق فيما تكتب، وتخير ما تقرأ واعرف لمن تقرأ.
وما اصدق قول القائل: إن القلم هو الوسيلة القادرة على تغيير وانتقاد ووصف كل شيء في أي زمان ومكان، فلا حدود لحروفه، ولا قوة تقف سدا في وجه طوفانه، في استطاعته أن يقيم دولا ويسقط عروشا بجرة واحدة كما يقال..
كان ولا يزال، العدو الأول لأصحاب السلطة والنفوذ، والملاذ الآمن لهواة المدح والثناء، خطت به سير، ووثقت به عبر، وحفظ به تاريخ الأولين والآخرين، ومجدت به حقب، ونسفت به حضارات، وصيغت اعترافات، ودونت به علوم الإنسان وأسراره، فلولاه ما كنا لنظفر منها بشيء أو نغرف منها غرفة علم واحدة..
فالقلم وجدان الإنسان وكيانه، ومرآة دواخله وأحاسيسه، وسفير عقله وبريد قلبه، فهو المترجم الحذق الذي يستطيع أن يجسد ما يدور في مخيلة الكاتب وينقله كما هو إلى الواقع ليصبح كتابا مخطوطا في متناول الجميع، فضله علينا لا ينكره عاقل أو سابح في أصناف العلوم ودروبها.
الكلمة أمانة ثقيلة ورسالة مقدسة رفعت القلم مكانة سامية فأقسم الله به في مطلع سورة سماها العلى الحكيم باسمه تشريفًا وتعظيمًا؛ تلك الأمانة التي يجدر بأصحابها أن يراعوا الله فيها ما استطاعوا؛ فأجرها عند الله كبير..
وليست الكلمة فقط حروفًا مكتوبة في صحيفة، ولا حروفًا منطوقة تجري على ألسنة المذيعين وضيوفهم، بل هي كل قول ينطق به داعية أو مفكر أو نخبة أو ساسة معارضة أو موالاة وكل صاحب تأثير في مواقع التواصل الاجتماعي بشتى صورها.. وما أخطر أثرها في الفضاء المفتوح.
القلم رسالة قبل أن يكون وظيفة أو أكل عيش.. والرأي أيا ما كان صاحبه أمانة أخلاقية.. وإذا كانت القدم تترك أثرًا على الأرض كما يقول المثل فإن لسانك يترك أثرًا في القلب والعقل والوجدان.. ورب كلمة ألقاها صاحبها دون أن يلقي لها بالًا فتحدث تأثيرًا مدويًا وربما يهوى بها في النار سبعين خريفًا كما قال سيد الخلق..
والذي يحضرنى ما قاله ردًا على الصحابي معاذ بن جبل الذي قال: "يا نبيَّ اللهِ، إِنَّا لمؤاخَذونَ بما نتَكلَّمُ بِه؟ قال: ثَكلتكَ أمُّكَ يا معاذُ، وَهل يَكبُّ النَّاسَ في النَّارِ علَى وجوهِهِم، أو علَى مناخرِهم، إلَّا حصائدُ ألسنتِهم".
إن ما تسطره الأقلام وتذيعه الألسن وسيلة بناء أو هدم للمجتمعات، وهذا ما أكدته أبحاث كثيرة أجراها باحثون غير مسلمين لتؤكد صدق ما جاء به الإسلام بشأن خطورة الكلمة التي أمرنا الله تعالى أن نتخيرها حتى لا نؤذي بها غيرنا فقال تعالى: " قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى ۗ" (البقرة:263) وقال أيضًا: "وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ" (الحج:30)..
ولأن الكلمة رسول للقلوب فقد قال الله سبحانه وتعالى في أشرف الأمور وهي الدعوة إليه: "ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ"، حتى تحدث الكلمة أثرها الإيجابي في نفوس المخاطبين بها حتى ولو كانوا متجبرين منكرين لدعوته كما في حال فرعون مع دعوة موسى الذي أمره ربه ومعه أخوه هارون بأن يلينا له الكلام بقوله: "اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ" (طه:44،43).