رئيس التحرير
عصام كامل

طلعت حرب نموذج لن يتكرر!

هل يمكن أن يتكرر نموذج قصة طلعت حرب في مصر المحروسة، هذا المارد الاقتصادي الجبار الذي أبعده -وقتها- رئيس الوزراء علي ماهر من منصبه في بنك مصر -الذي أنشأه- بعد رحلة كفاح وطنية تستحق أن تدرس لطلابنا، كما تستحق بجدارة أعمالًا فنية يبرز كل واحد منها بتجرد وموضوعية حياة الباشا ابن البلد المناضل المثقف الوطنى الغيور على مصر، والذي نجح في تمصير الشركات وتحقيق حلم البنك الذي فشل فيه الوالي محمد على الكبير ومن حذا حذوه!


 لاشك أننا نظلم طلعت حرب إذا اختصرنا مسيرة كفاحه ونجاحه في الجانب الاقتصادي فحسب، وهو جانب لو تعلمون عظيم، نحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى لاستلهامه ربما نجحنا في وقف السعي الحثيث لطرح الشركات الحكومية الناجحة للقطاع الخاص، فيما يعرف باسم الطروحات الحكومية..

 

وهو مسمى موازٍ أو ربما معدل للخصخصة التي تلبس رداءً مغايرًا من عهد لآخر.. والشاهد هنا أن طلعت حرب كان مؤمنا بوظيفة الاقتصاد الحيوية فى معركة الاستقلال، قبل أن يتحول لاحقا للرهان الكامل على فكرة التنمية وتفكيك الهيمنة الاستعمارية، عبر إطلاق القدرات الاقتصادية وإحلال المكوِّن المصرى بدلا من الأجنبى، من منطلق وطنى ناضج، سعيًا لتمصير القدرات الإنتاجية التقليدية، قبل أن يتيسَّر له مستقبلا امتلاك مداخل موضوعية لصياغة سياق إنتاجى جديد وعصرى بالكامل..وهذا هو بيت القصيد!


طلعت حرب المولود فى شتاء العام 1867، وتحديدا في 25 نوفمبر قبل 157 سنة كان مثقفًا متمسكًا بالهوية العربية الإسلامية لدرجة أن البعض يتهمه ب الرجعية، متناسيًا أن الباشا طرح عن رؤية عميقة وإيمان قوي سؤال الهوية ليحصل على جواب التحرر، بعدما علم يقينًا أن الشخصية المصرية قد تحللت ببطء مع الزمن حتى غلب المكون العربى والإسلامى فيها على غيره من المكونات، معتبرًا أن التمسك بتلك الصيغة بأبعادها الأصولية قد يكون الضامن الأقوى لمواجهة مخاطر التفسخ، أو صد محاولات الاستعمار الثقافى.


مثل هذه الخلفية واجبة لمعرفة أهم جوانب شخصية طلعت حرب أو الباشا صانع النهضة، وربما يفسر موقفه من قاسم أمين، وتخصيصه (أي الباشا) كتابين هما تربية المرأة والحجاب، وفصل الخطاب فى المرأة والحجاب.. لمناظرة كتابى قاسم أمين تحرير المرأة، والمرأة الجديدة.. 

 

ولم يكن الباشا معاديًا للمرأة ولا لقاسم أمين وإنما متمسك بهويته، مدرك لمخاطر التفريط فيها، حيث طالب بـ تربية البنات على مبادئ الشريعة الإسلامية؛ بإنشاء محل للصلاة في المدرسة، وتحبيب الفضيلة الدينية إلى قلوب البنات، وإعطائهن من العلوم والآداب ما يكفي لأن يجعلهن زوجات صالحات، وأمهات مربيات ينتجن أولادا صالحين.


طلعت حرب كان اقتصاديًا من طراز رفيع ربما يحتاج بعض المسئولين هذه الأيام لإعادة قراءة سيرته؛ لاستنبات طلعت حرب جديد بدلًا من العودة لماضٍ لم يأت منه خيرٌ؛ فطلعت حرب رأى ومعه كل الحق أن رهان الاقتصاد كان يستدعى الانتقال من النمط الزراعي الريعى، إلى حداثة المجتمع الصناعى وآليات الإنتاج المبتكرة.. 

مع ما تنطوى عليه من قيم عصرية ومتطلبات مُلحة فيما يخص التمدن والوعى والتعليم وتطوير أنماط المعيشة، مع التوفيق بين المواكبة الضرورية لاشتراطات الحداثة باعتبارها سلاحا ضروريا فى معركة التحرر، وصيانة الهوية الوطنية من التفسخ أو التشوه بقيم المُحتل، انطلاقا من كونها ساحة صراع لا تقوم الحرب ولا يكون الانتصار حال فقدت الثبات والصلابة!


إن الوقوف أمام محطة بنك مصر على أهميته وما تبعه من شركات ومشروعات متنوعة وضخمة، لا يكفي وحده للحكم على شخصية ومنجزات الباشا الذي نجح ببراعة في اجتياز صعوبات وتحديات معقدة في زمانه.. بل يحتاج الأمر لأكثر من ذلك؛ يحتاج لقراءة واعية لقصة رجل لم ولن يتكرر، إذ ينبغي توسيع النظرة لمسيرته بوصفه مثقفًا له قناعات، ووطنيًا له أهداف، واقتصاديًا يعرف أصل الداء وما هو الدواء!

 
طلعت حرب لم يكن رجعيا أو معاديا للمرأة، بل نظر إليها بوصفها حائط الصد الأخير فى معركة مفتوحة مع الاستعمار، وكان أكثر وضوحا بالقول: "هياج الرأى العام على قاسم أمين ناتج عمّا هو راسخ فى الأذهان من أنّ رفع الحجاب والاختلاط كلاهما أمنية تتمناها أوروبا".

 

ويبقى أن طلعت حرب كان يعيش حلما وطنيا تحرريا، وليس مجرد مشروع مصرفى واستثمارى، ورضى عن طيب خاطر أن يكون قربانا على مذبح بنك مصر الذي ضحى لأجله حين ذهب إلى وزير المالية وقتها حسين سرى، طالبا إنقاذ البنك بوقف سحب الودائع الحكومية، أو دفع البنك الأهلى لإقراضه، أو إصدار بيان بضمان أموال المودعين.. 

كان الرد الوحيد الذى خطط له رئيس الحكومة على ماهر: بقاء بنك مصر ثمنه رحيل طلعت حرب! فرد الأخير قائلا عبارته المشهورة:"ما دام فى تركى حياةٌ للبنك؛ فلأذهب أنا ويعيش البنك"..

 

 

 وبقى طلعت حرب وبقي البنك وذهب المتآمرون إلى مزبلة التاريخ.. والسؤال: هل من طلعت حرب جديد في هذا العصر.. وأين المتحدة من قصة كفاح طلعت حرب.. ألا يستحق مسلسلًا على الأقل لتتعلم منه الأجيال الجديدة والمسئولون أيضًا؟!

الجريدة الرسمية