هؤلاء علّموني (1)
أحب الناس إلى قلبي أبي وأمي فقد تحملا لأجلي الكثير والكثير، وكانا يوفران من قوتهما لتدبير ما أحتاج إليه في حياتي وتعليمي أنا وإخوتي؛ حتى التحقت بالجامعة، وتحديدًا بكلية إعلام القاهرة التي أحببت الدراسة بها واستجاب أبي وأمي لرغبتي.. رحمهما الله رحمة واسعة؛ فقد رحلا عن دنياي قبل أن أرد لهما شيئًا من الجميل الذي طوقا به عنقي.. وما أكثر ما كنت أنتوي تقديمه لهما جزاء تعبهما لأجلي.
طفولتي هي أكثر ما يلتصق بذاكرتي في محطات حياتي على كثرتها؛ فبعضها لا يزال حاضرًا بقوة في ذاكرتي وبعضها أتذكره كلما جادت الذاكرة بها وإنني أدين بالفضل فيها بعد الله سبحانه وتعالى لأبي وأمي، ثم لمعلمي المربي الفاضل المرحوم الأستاذ محمد عبدالعزيز الشحات وشهرته محمد العدلي..
الذي تعهدني في المدرسة الابتدائية بمدرستي في قرية بيشة قايد بمركز الزقازيق بالشرقية، فكان نعم الأب والمعلم الذي تولى تدريس كل المواد لنا وقتها، وكان وحده مدرسة كاملة يعادل كل مدرسي المواد هذه الأيام.. علّمنا حب الأم والأب والوطن والدين ومعنى الحياة الحقيقية، حتى أنه كان يصطحبنا من قريتنا إلى مركز الزقازيق لأداء امتحان الشهادة الابتدائية.
بعد أبي وأمي، كان العادلي معلمي وقدوتي الذي عرفت على يديه معنى التربية الحقيقية والقيم الأخلاقية الرفيعة وأبسط مبادئ العلم والمعرفة.. رحمه الله تعالى رحمة واسعة.
وبعد الإعدادية حصلت على الثانوية العامة بمجموع كبير رشحنى لكل كليات القسم الأدبي.. لكنني فضلت دراسة الصحافة والإعلام، وتقدمت لمعهد الإعلام بجامعة القاهرة الذي لم يكن يكتفي وقتها بالمجموع العالي بل كان يشترط اجتياز اختبارات شفوية وتحريرية يعقدها أساتذة وإعلاميون وصحفيون وشخصيات عامة لها وزنها..
جلال الدين الحمامصي
وقد اجتزتها كلها بنجاح ليتم قبولي بذلك المعهد الذي سرعان ما تحول إلى كلية للإعلام تتلمذت فيها على أيدي أساتذة كبار، بينهم الكاتب الصحفى الكبير جلال الدين الحمامصي، والدكتور عبد الملك عودة، والدكتور حامد ربيع، والدكتور جمال العطيفى (وزير الإعلام فيما بعد) وغيرهم من القمم والقامات الأكاديمية والمهنية..
وسوف يظل أستاذي جلال الدين الحمامصي، رحمه الله، محطة مهمة في حياتي فقد تعلمت على يديه فنون الصحافة والمهنية وشرف الرسالة والمصداقية، ورغم أنه خريج هندسة القاهرة (قسم عمارة) عام 1939 فإنه كان أستاذًا بحق للصحافة، لقّن أجيالًا وأنا واحد منهم، دروسًا عملية في شتى فنون الصحافة، ولم يكن يكتفي بملاحظاته على تعليم تلك الفنون الصحفية بل كان يحرص على غرس قيم واخلاقيات الصحافة فينا..
وقد بدأ الأستاذ جلال الدين الحمامصي عمله محررًا صحفيًا في جريدة كوكب الشرق عن عمر يناهز 15 عامًا، وكان في بداياتها مساعدًا لسكرتير تحرير جريدة المصري، كما عمل مستشارًا صحفيًا لجريدة الأساس في يونيو 1947 وكان أول من حمل هذا اللقب في الصحافة المصرية، وهو صاحب العمود المتميز في جريدة الأخبار "دخان في الهواء" الذي امتاز بمعلوماته الغزيرة والرأي والتحقيق، وكان يقود الحملة تلو الأخرى ضد الفساد والإهمال، وكان القارئ ينتظره بشغف.
ومن جلال الدين الحمامصي تعلمنا الالتزام واحترام الآخر والمهنية والحفاظ على "المصدر" فلا نفشي له سرًا، كما تعلمنا على يديه كل أنواع الفن الصحفي من خلال جريدة صوت الجامعة، التي صدر أول أعدادها في 18 ديسمبر 1972، وكانت بمثابة معمل تدريب لنا نحن طلاب كلية إعلام القاهرة قسم الصحافة حيث كنا نقوم بتحريرها وتوزيعها.
ولا ننسى أن جلال الدين الحمامصي أشرف على إنشاء وكالة أنباء الشرق الأوسط ورأس مجلس إدارتها، وتوفاه الله في يناير 1988، ولا يمكن لأي شخص تعلم على يديه أن ينساه أبدًا؛ ذلك أنه كان قدوة حقيقية للصحفي المهني الصادق الذي يبادر بالتصدي لأي فساد أو إهمال.
ترى هل لا يزال في بلاط صاحبة الجلالة قامات بحجم جلال الدين الحمامصي لديه القدرة على تعليم الشباب وغرس قيم المهنة فيهم.. وهل لدى شباب المهنة رغبة في التعلم والتطور؟!