كفانا كليات إعلام.. وخريجين بلا عمل!
تعليمنا لا يزال في حاجة لتغيير جذري، ليس في المناهج وطرق التدريس فحسب، بل في الرؤية والفلسفة.. ليجيب مثل هذا التغيير عن سؤال جوهري: ماذا نريد من الأجيال القادمة.. هل نريد خريجين بلا بوصلة ولا هوية ولا هدف سوى الحصول على شهادة أو مؤهل يناسب سوق العمل أو يمنحهم صك البراءة من الجهل والأمية!
ما فائدة أن تلتحق مثلًا بكلية إعلام ثم لا تجد لنفسك بعد التخرج عملًا أو أملًا، في وقت يعمل فيه لاعب الكرة وصاحب الصوت الزاعق والشتّام مذيعًا دون أن يحصل أصلًا على مؤهل في تخصص الإعلام، بينما خريجو الإعلام لا يجدون عملًا ويعانون البطالة!
فلماذا التوسع في كليات الإعلام بالجامعات الحكومية والخاصة والأهلية بينما المجال يضيق بأهله ذرعًا؛ فلا الصحف القومية قادرة على استيعاب مزيد من خريجي أقسام الصحافة، ولا أحوالها المالية تسر عدوًا ولا حبيبًا؛ حتى بات لسان حالها "لا تعيينات ولا قبول أي خريجين جدد"..
أما الصحف الخاصة فليست أحسن حالًا من القومية بل لعلها تعاني ظروفًا أكثر سوءًا وأشد قسوة، ولا تكاد تفلت من ضائقة مالية حتى تقع في أخرى، وهو ما يدفعها لتسريح والاستغناء عن بعض محرريها.. أما توزيع الصحف فلم يعد موردًا اقتصاديًا يسمن أو يغني من جوع..
بل لا أبالغ إن قلت إنه بات قليلًا بل نادرًا يصل لحد العدم؛ فلم يعد للصحافة قراء بعد اكتساح السوشيال ميديا لساحة الإعلام، وبات جمهور بعض صناع المحتوى على الإنترنت أكثر عددًا من قراء الصحف..
حتى إعلانات الوفيات ذهبت لصفحات الفيس بوك ولم تعد حكرًا على الأهرام ولا غيرها من الصحف بل إن الناس استبدلوها بمواقع التواصل الاجتماعي!
يحزننى القول إن الصحافة في حاجة لمزيد من الإصلاح والدعم والإبداع حتى تنجو من موت بات محققًا.. كما أن إعلام الفضائيات لم يعد مرغوبًا به.. ومع ذلك تصر الجامعات علي إنشاء كليات إعلام جديدة وتتوسع فيها.. ولا أدري كيف يرى القائمون عليها وهم أساتذة كبار مستقبل مهنة تصارع الغرق!
نظرية الكم لا تصلح في مجال الإعلام، فبرنامج واحد ناجح وله مصداقية وتأثير خيرٌ من عشرات البرامج التي انصرف الناس عنها، وليس معنى كلامى هو الاكتفاء بالصوت الواحد والرأي الواحد، لكنى أقصد أن كلمة قوية تصل للناس وتحدث فيهم التأثير الإيجابي المطلوب خير من آلاف الكلمات وساعات البث التي تذهب هباءً منثورًا..
التدقيق في اختيار المذيعين واجب.. والكلمة الصادقة الهادفة خيرٌ وأحب إلى الناس من ملء الأرض كلمات لا تصل لعقول الناس وقلوبهم، حتى لو وصلت لمسامعهم.. صدقوني خريجو الإعلام في مأزق حقيقي..
وهو ما يحتاج لوقفة تأمل وإصلاح وقرارات جذرية تعالج خللًا يتسبب في ظلم أجيال تبحث عن أمجاد واهية، لا وجود لها مع انطفاء وهج المهنة وذهاب بريقها وتأثيرها واقتصادها، وانسحاب البساط من تحت أقدامها..
ولتكن البداية بترشيد القبول بكليات الإعلام ووقف التوسع في كلياته وتدريب الخريجين وإتاحة الفرصة لهم، وتنقية الشاشات من الدخلاء الذين زاحموا أهل التخصص والكفاءة، وحرموهم من حقهم الطبيعي في الحياة، وهو العمل في مهنة درسوا قواعدها وأصولها ورسموا أحلامًا عريضة للالتحاق بها، لكنهم وجدوا بعد التخرج سرابًا وأوهامًا وصدمة قاسية.. فاعتبروا يا أولى الأبصار!