الصحفي المفكر!
لم يكن أنيس منصور مجرد عالم أكاديمي أحاط بعلوم الفلسفة، ولا مجرد قارئ نهم يلتهم كل ما تصل إليه يداه من الكتب، ولا مجرد كاتب صحفي يملك ناصية اللغة وفنون التحرير الصحفي، بل كان كل هؤلاء في شخص واحد..
فقد كان عليمًا ببواطن لغات عدة؛ إذ تعلم أكثر من لغة، منها الإنجليزية والإيطالية والفرنسية والروسية والألمانية، وهو ما ساعده على الاطلاع على ثقافات مختلفة حول العالم أكسبته خصوبة العقل وطلاوة الفكر وطزاجته..
وكان له باعٌ طويلٌ في الترجمة إلى العربية؛ حيث ترجم نحو 9 مسرحيات و5 روايات و12 كتابًا لفلاسفة أوروبيين إلى اللغة العربية، وهو ما لفت انتباه دور النشر العالمية فبادرت بترجمة كثير من أعماله إلى لغاتها وخصوصًا الإنجليزية والإيطالية.
كان أنيس منصور قارئًا من طراز نادر، لا يكاد يفوته كتاب طبع هنا أو هناك، ومن عجائب ما رأيت إبان أحداث يناير أن فوجئت بعموده اليومي في الأهرام "مواقف" في الرابع عشر من فبراير 2011، أي بعد تنحي الرئيس مبارك عن الحكم، فوجئت بالأستاذ أنيس يتناول بتحليل مبسط ورؤية معمقة كتاب الجمهورية الذي كنت رئيسًا لتحريره أيامها إلى جانب رئاستى لمجلس إدارة مؤسسة دار التحرير للطبع والنشر..
وكان الكتاب بعنوان "مصر 2010: أحوال وطن"، وهو عمل توثيقي قام بإعداده الزميل عثمان الدلنجاوي وصدر له أربعة إصدارات سنوية متتالية ترصد أهم ما جرى في مصر على مدار العام، وكان الزميل الدلنجاوي وقتها نائبًا لرئيس تحرير الكتاب قبل أن ينتقل لجريدة المساء ليكون واحدًا من مديري تحريرها.. أثنى كاتبنا الكبير أنيس منصور على الكتاب.
أنيس منصور في رأيي كان الصحفى المفكر إذا جاز التعبير، فرغم صعوده الأكاديمى وتدريسه مادة الفلسفة لطلاب الجامعة، لكن ذلك لم يمنعه من الصعود الصحفي ليكون واحدًا من أهم الصحفيين في عصره، وكانت البداية مع مؤسسة أخبار اليوم، وانتقل إليها مع كامل الشناوي، وتتلمذ على يد مؤسسيها الأستاذين مصطفى وعلي أمين، ثم تركها إلى الأهرام في مايو 1950 حتى 1952..
واندلعت ثورة يوليو 1952 أثناء سفره إلى أوروبا، ولما عاد إلى مصر ظل يعمل في أخبار اليوم، حتى تركها عام 1976 ليصبح رئيسا لمجلس إدارة دار المعارف، ليصدر بعدها مجلة الكواكب..
كما عُيّن رئيسًا لتحرير عدد من الصحف والمجلات، منها الجيل، وآخر ساعة، والعروة الوثقى، ومايو، وكاريكاتير، والكاتب، وأكتوبر التي كلفه الرئيس السادات بإصدارها وقد شهدت أوج مجدها وتألقه على يديه وشتان بين حالها آنذاك وبين ما آلت إليه من بعده..
وصاحبه، ورأى بعينه الثاقبة ما لم تره الحكومة أيامها من أجراس إنذار بأن شيئًا ما يتفاعل في الأعماق وسوف يحدث أثرًا مدويًا، وقد كان ووقعت أحداث يناير 2011 التي ستظل درسًا مهمًا لا يستهان به في حركة التاريخ وتحولاته الكبرى!
كان أنيس منصور عاشقًا للقراءة، متبحرًا في علوم الفلسفة، مولعًا بحب السفر والرحلات وعالم الغرائب، مثقفًا موسوعيًا، وكاتبًا صحفيًا لا يشق له غبار..
وكان فوق كل هذا مقربًا من أساطين السياسة في عصره، ارتبط اسمه ومسيرته، برؤساء مصر وتحولاتها السياسية منذ منتصف القرن العشرين..
لمع نجمه في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وأصبح الصحفي الأول في مصر في عهد الرئيس السادات الذي جمعتهما علاقة قوية قبل أن يتراجع دوره في عهد الرئيس حسني مبارك.
رحم الله أنيس منصور الذي أمتعنا وأفادنا بعلمه ومعلوماته ورؤيته النافذة لدنيا الناس.