ثورة يوليو هل أكلت بنيها؟!
كلما تجدد ذكرى ثورة يوليو تجدد السؤال: هل أكلت الثورة بنيها؟! البعض يقول إن الثورة أكلت بنيها.. وتلك حقيقة مسكوت عنها في كتب التاريخ أو وردت على استحياء.. لكن من الإنصاف أن نقول أيضًا إن أبناء الثورة أيضًا اختلفوا معها، لكنها في كل الأحوال كانت في بدايتها حركة قام بها بعض الضباط الأحرار وسرعان ما انضم إليهم أبناء الشعب..
ولا يجادل أحد فيما حققته من إنجازات تحقق بفضلها تصنيع شق طريقه وسط الصعاب، وإصلاح زراعي واجتماعي وفرص عمل ووظائف حكومية تبوأتها طبقات مختلفة وفي القلب منها الفئات الكادحة التي كانت نواة صلبة للطبقة الوسطى.
ورغم كل المزايا فلا يمكن أن ينكر منصف ما وقعت في ثورة يوليو من أخطاء اعترف بها قادتهم أنفسهم؛ وهو ما جرها لانتكاسات كبرى لولاها لكانت تلك الثورة من أمجد أيامنا التاريخية.. ويجب ألا ننسى أيضًا أزمة مارس 53 التي أنهت شهر العسل بين رفاق يوليو صناع الثورة ومفجريها، الذين استحال وفاقهم خلافًا وصراعًا شرسًا انقسموا في إثره لفريقين لكل منها وجهة نظر تحترم..
أما أحدهما فكان صاحب الأغلبية داخل مجلس قيادة الثورة وترأسه جمال عبدالناصر الذي كان من رأيه تمديد الفترة الانتقالية سنوات أخرى حتى تكتمل أهداف الثورة ومبادئها الستة التي قامت لأجلها.. أما الفريق الآخر فقد تزعمه اللواء محمد نجيب أعلاهم رتبة في ذلك الوقت ومعه خالد محيي الدين ويوسف صديق والذين كانت نهايتهم دراماتيكية..
حيث أقيل محمد نجيب أول رئيس للجمهورية وتحددت إقامته في فيلا بالمرج، ولزم يوسف صديق بيته معرضًا عن إتمام المشوار مع الثوار، ولم يشفع له أنه أنقذ الثورة والرفاق من حبل المشانق لو فشلت في لحظاتها الأخيرة، التي خاطر فيها بروحه حين اقتحم مقر القيادة العامة للقوات المسلحة.
ويبقى أننا في حاجة لتوثيق أمين ومنصف ومحايد لثورة يوليو التي تجهلها الأجيال الجديدة ولا تعرف عنها إلا ما يرد في كتابات متناثرة بين الحين والآخر.. ويكفيها أنها حققت للشعب ما لم يكن يحلم به ولولاها ما تملك الفلاحون أرضًا وما تعلم أبناؤهم ونحن مثلهم بالمجان في مدارس وجامعات تخرج فيها نوابغ كثر منهم مشرفة وزويل ويعقوب والباز وغيرهم.. فهل لا تزال مكاسب يوليو قائمة أم تجاوزها الزمن وعفا عليها؟!
لا ينبغي أن يغيب عنا ونحن نطالع ما كتب عن يوليو مدحًا أو قدحًا أن نتذكر أن ثوار يوليو كانوا بشرًا لهم ما لهم وعليهم ما عليهم.. ولعل ما يثار عن تلك الثورة من جدل لم ينقطع منذ رحيل جمال عبد الناصر في سبتمبر 1970 خير دليل على أن لثورة يوليو تأثيرًا لا يمكن إنكاره في تاريخ المصريين وأحوالهم على مدى عقود وعقود؟!
لم يكن جمال عبد الناصر شخصًا عاديًا بل كان استثنائيًا فرض شخصيته على مسارات الأحداث في عصره، بل ربما صنع بنفسه أو شارك في صنع تلك الأحداث، تاركًا بصمة يستحيل أن تُمحَى بعد أن امتدّت الناصرية لتحدث أثرًا عميقًا ليس في أفريقيا وحدها بل في آسيا وأمريكا اللاتينية.
وستبقى ثورة يوليو واحدة من أعظم ثورات العصر؛ إذا نحن قسناها بحجم التغيرات الجذرية في المجتمع المصري وصولًا للمجتمع العربي والإفريقي، وانتهاءً بأمريكا اللاتينية والهند وغيرهما من البقاع المتعطشة للتحرر الوطني، والتي استلهمت أفكار عبد الناصر ودعوته للحرية والاستقلال والخلاص من نير الاستعمار الأجنبي الباطش، الذي لم يكن واردًا في مخططاته أن يتخلى عن تلك الأرض لأصحابها لولا قيام ثورة يوليو التي أشعلت النار وزلزلت الأرض تحت أقدام المحتلين.
أمجاد وإنجازات ثورة يوليو يستحيل طمسها أو إخفاء معالمها، وسوف تبقى دواءً لكثير من أمراضنا.. ولها في المقابل إخفاقات وأخطاء شأنها شأن أي عمل بشري لا يصح إنكارها.. لكن لا يصح أيضًا أن يتخذها البعض ذريعة للنيل منها وإهالة التراب عليها وتجريدها من كل حسناتها بمناسبة وبغير مناسبة، فهذا ظلم فادح لا ينال من ثورة يوليو بقدر ما ينال من مصر ذاتها باعتبارها الأم الحقيقية.
وحتى يكون الحكم على عبد الناصر وثورته عادلًا ومنصفًا فلابد أن ينهض على أسس تقييم موضوعي دقيق وأمين لنحو 18 عامًا من عمر مصر وأمتها العربية.. وليس من الحق أن يدعي البعض أن ازدهار الثقافة والفنون في العهد الناصري إنما يرجع لرعاية الدولة لها حتى تكون لسان حال المشروع القومي والثوري..
فالضباط الأحرار كانت لهم علاقات وثيقة بالثقافة؛ فمنهم من وقع في حبها قبل الثورة، ومنهم من امتهن الكتابة والإبداع؛ فعبد الناصر نفسه كانت له محاولات للكتابة في المسرح والرواية، وله قصة بعنوان "في سبيل الحرية" بدأها وهو لا يزال طالبًا في الثانوية، وتناول فيها معركة رشيد، ثم كتب "فلسفة الثورة"، و"يوميات عن حرب فلسطين".. ولا ننسى ما قاله عبد الناصر حين سئل بعد قيام الثورة عن المفكرين الذين أسهموا في تكوين أفكاره فاستشهد برواية "عودة الروح" لتوفيق الحكيم.
من فضائل ثورة يوليو أنها مكنت الشعوب من حق تقرير المصير وأنهت موجات استعمار أذاقت البشر في مصر والإقليم كله مرارة العبودية وذل الاحتلال.. وهذا هو سر خلودها في وجدان الشعوب الحرة هنا وهناك.. رغم مرارة أو هزيمة 67 وما تلاها من تداعيات خطيرة تغلبنا عليها بتحقيق انتصارات أكتوبر 73!.