الردود فنون!
بلاغة الرد موهبة لا يملكها كثير من الناس، وفي كل الأحوال يحتاج المرء للتفكير قبل الاندفاع في الرد على من يحاوره، فالكلمة كالسهم إذا خرجت لا تعود إلا بأحد أمرين؛ إما أن تنفتح لها القلوب أو تنغلق دونها وتنقطع السبل بصاحبها فينبذه الناس وينفضون عنه..
وهو ما عبر عنه القرآن بقوله تعالى: "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (آل عمران: 159)..
تراثنا العربي حافل ببلاغة الردود، يحضرني منه ما قاله العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل: أأنت أكبر أم رسول الله فقال: هو أكبر منى لكنى ولدت قبله!
وقد سأل الحجاج يوما الغضبان بن القبعثري عن مسائل يمتحنه فيها من جملتها أن قال له: من أكرم الناس؟ قال: أفقههم في الدين وأصدقهم لليمين وأبذلهم للمسلمين، وأكرمهم للمهانين، وأطعمهم للمساكين. قال: فمن ألأم الناس؟ قال: المعطي على الهوان، المقتر على الإخوان، الكثير الألوان.
قال: فمن شر الناس؟ قال: أطولهم جفوة، وادومهم صبوة، وأكثرهم خلوة، وأشدهم قسوة. قال: فمن أشجع الناس؟ قال: أضربهم بالسيف، وأقراهم للضيف، وأتركهم للحيف. قال فمن أجبن الناس؟ قال: المتأخر عن الصفوف المنقبض عن الزحوف، المرتعش عند الوقوف، المحب ظلال السقوف الكاره لضرب السيوف.
قال: فمن أثقل الناس؟ قال: المتفنن في الملام، الضنين بالسلام، المهذار في الكلام، المقبقب على الطعام. قال فمن خير الناس؟ قال: أكثرهم إحسانا وأقومهم ميزانا، وأدومهم غفرانا، وأوسعهم ميدانا، قال: لله أبوك، فكيف يعرف الرجل الغريب؟ أحسيب هو أم غير حسيب؟
قال: أصلح الله الأمير: إن الرجل الحسيب يدلك بأدبه وعقله وشمائله وعزة نفسه وكثرة احتماله وبشاشته وحسن مداورته على أصله، فالعاقل البصير بالأحساب يعرف شمائله، والنذل الجاهل يجهله، فمثله كمثل الدرة إذا وقعت عند من لا يعرفها ازدراها، وإذا نظر إليها العقلاء عرفوها وأكرموها، فهي عندهم لمعرفتهم بها حسنة نفيسة..
فقال الحجاج: لله أبوك فما العاقل والجاهل؟ قال: أصلح الله الأمير العاقل الذي لا يتكلم هذرا، ولا ينظر شزرا، ولا يضمر غدرا، ولا يطلب عذرا، والجاهل هو المهذر في كلامه، المنان بطعامه، الضنين بسلامه المتطاول على إمامه، الفاحش على غلامه.
قال: لله أبوك، فما الحازم الكيِس؟ قال: المقبل على شأنه، التارك لما لا يعنيه، قال: العاجز؟ قال: المعجب بآرائه الملتفت إلى ورائه. قال: هل عندك من النساء خبر؟ قال: أصلح الله الأمير، إني بشأنهن خبير إن شاء الله تعالى. إن النساء من أمهات الأولاد بمنزلة الأضلاع إن عدلتها انكسرت، ولهن جوهر لا يصلح إلا بالمداراة، فمن داراهن انتفع بهن وقرت عينه، ومن شاورهن كدرن عيشه، وتكدرت عليه حياته، وتنغصت لذاته، فأكرمهن أعفهن، وأفخر أحسابهن العفة، فإذا زلن عنها فهن أنتن من الجيفة.
قال الولد لأبيه: صاحب القمامة عند الباب، فرد الأب: يا بني نحن أصحاب القمامة، وهو صاحب النظافة جاء ليساعدنا.
وقال ملك لوزيره: ما خير ما يُرزقُه العبد؟ قال: عقل يعيش به، قال: فإن عدمه؟ قال: أدب يتحلى به، قال: فإن عدمه؟ قال: مالٌ يستره، قال: فإن عدمه؟ قال: فصاعقة تحرقه وتريح منه العباد والبلاد.. الردود فنون ليتنا نحسنها حتى نكسب قلوب الناس.. فالكلمة الطيبة صدقة تبقى وتنفع!