القوي
كمال الهدوء
في أحد الأيام الهادئة، اجتمع الآباء في مجمع الأسقيط لعقد اجتماع مهم. وكان من بين الحضور الأنبا موسى الأسود، المعروف بورعه وتقواه. ومع ذلك، كان هناك بعض الآباء الذين قرروا امتحانه لمعرفة مدى صبره وتحمله للإهانات، فرأوا أن يختبروه ببعض الكلمات القاسية والمُهينة. فقال أحدهم بصوت عال: "لماذا يوجد هذا الراهب الأسود بيننا؟ هل جاء ليفسد ترتيب رهبنتنا؟ هل نحن بحاجة إلى لص بيننا؟"
رد مدهش!
مرت الكلمات القاسية كالسيوف، ولكن الأب موسى لم يتحرك ولم ينبس ببنت شفة. بقي هادئًا كالبحر في ليلة صيفية، لم تبدِ ملامحه أي انزعاج أو غضب. بعد انتهاء المجمع، شعر الآباء بالندم على ما قالوه، وذهبوا إلى الأب موسى ليعترفوا له بأنهم كانوا يقصدون امتحانه. سألوه بتردد: "ألم يُحزنك هذا الكلام؟" رد عليهم الأب موسى بهدوء وبابتسامة خفيفة: "بصراحة، حزنت قليلًا في داخلي، ولكنني بقيت صامتًا ولم أفتح فمي".
أثارت ردود فعل الأب موسى إعجاب الآباء وزادت من احترامهم له. ولكن القصة لم تنته هنا. في وقت لاحق، جاء مجموعة من الإخوة إلى شيخهم ليسألوه عن مغزى ما قاله الأب موسى عندما اعترف بأن قلبه تزجس ولكنه لم يتكلم. أرادوا فهم كيف يمكن للإنسان أن يتحمل الإهانات بهذا القدر من الصبر والهدوء؟، أرادوا أن يتعلموا تلك الفضيلة التي واجههم بها الأنبا موسى وقتما اختبروه.
الشيخ الحكيم ويوحنا القصير
فرد عليهم الشيخ بحكمة السنوات الطويلة التي عاشها في البرية وفي عشرة حقيقية مع الله قائلًا: "إن كمال الرهبان يتكون من جزئين: عدم التزجس بحواس الجسد وعدم التزجس بحواس النفس. التزجس بالجسد هو عندما يُشتم الإنسان ويكبح جماح نفسه لأجل الله ولا يتكلم حتى ولو اضطراب. أما التزجس بالنفس، فهو عندما يُساء معاملة الإنسان ويُشتم ومع ذلك لا يغضب في قلبه".
وحتى يفهم الرهبان المغزى من الكلام أكثر وتصبح رؤيتهم أوضح، استمر الشيخ في رواية قصة عن القديس يوحنا القصير، الذي كان مثالًا للتزجس الكامل. قال: "حدث مرة عندما كان الإخوة جالسين معه، مر عليهم رجل وأهانه، ولكنه لم يغضب ولم يتغير منظره.
حتى تعجب الجميع من حوله ولم يفهموا سر صمته التام ووجهه الذي لم تظهر عليه أي تعابير مطلقًا، وعندما سأله الإخوة: 'ألم تضطرب في داخلك يا أبانا عندما أُهنت بهذه الطريقة؟' رد عليهم: 'لم أضطرب في داخلي، أنا هادئ في داخلي كما ترونني من الخارج تمامًا".
في رحلة الكمال
أوضح الشيخ أن الأب موسى، على الرغم من أنه لم يغضب من الخارج، إلا أنه اعترف بوجود نزاع داخلي في قلبه. ورغم ذلك، احتفظ بصمته ولم يغضب من الخارج، وهذا في حد ذاته فضيلة روحية عظيمة يجب أن يتحلى بها الإخوة ويتعلموها في حياتهم الروحية وينموها في قلوبهم. ولكن الشيخ أضاف: "لو لم يغضب داخليًا أو خارجيًا، لكان ذلك أكثر كمالًا".
وبالتأكيد تعلم الإخوة من هذه القصص القيمة الحقيقية للصبر والتحمل، وكيف يمكن للإنسان أن يصل إلى مراحل متقدمة من الكمال الروحي من خلال السيطرة على مشاعره وكبح جماح نفسه، سواء ظاهريًا أو باطنيًا.
يوم السيامة
وفي موقف آخر، عندما رسم الأب موسى قسًا، ألبسوه التونية البيضاء، فقال له رئيس الأساقفة (البابا ثيئوفيلس الـ23): "ها قد صرت كلك أبيض يا أبا موسى". فرد عليه الأب موسى بكل تواضع: "هذا حق من جهة الخارج، أيها الأب المكرم، ولكن ماذا عن ذاك الذي في الداخل؟".
أراد رئيس الأساقفة أن يمتحن الأب موسى مرة أخرى، فقال للكهنة: "عندما يدخل إلى الهيكل اطردوه، ثم اتبعوه لتسمعوا ماذا يقول. "فدخل الأب موسى، وطردوه قائلين: "اخرج يا أسود." فخرج وهو يقول لنفسه: "حسنًا فعلوا بك لأن جلدك أسود كالرماد، إنك لست إنسانًا، فلماذا تسمح لنفسك أن توجد مع الناس؟"
شهد له أبوه الروحي، أنبا إيسيذورس، ورشحه للكهنوت. وعندما بدأ البطريرك يضع يده عليه للرسامة، سمعوا صوتًا من السماء قائلًا: "مستحق، مستحق، مستحق".
في كل هذه المواقف، تجلى الأب موسى كرمز للفضيلة والتواضع، عارضًا أمام الجميع كيف يكون الاحتمال والصبر في مواجهة الإهانات، وكيف يمكن للإنسان أن يظل ثابتًا في إيمانه وسلامه الداخلي، مهما كانت التحديات والمحن التي يواجهها.
للمتابعة على قناة التليجرام: @paulawagih