فنان لن يجود الزمان بمثله!
عبدالحليم حافظ الذي عبرت بنا ذكرى رحيله الـ47 منذ أيام لا يزال خالدًا بأعماله في الوجدان الشعبى؛ ما يؤكد أنه ظاهرة لا تتكرر؛ فالراحل لم يكن مجرد مطرب عانق الفن روحه حتى تألق وتميز.. لكنه كان مبدعًا شاملًا جمع بين الغناء والتمثيل، بدأ حياته معلمًا للموسيقى ثم ارتقى للغناء حتى أبحر في تياره ليبنى مجدًا لا يزال خالدًا تتعايش معه الأجيال ولا تتوقف ذاكرتها عن استدعائه..
فالكل يجد نفسه فيه؛ فصاحب العاطفة الجياشة المتدفقة يجد ذاته في كلمات وغناء حليم، والمحب لوطنه يجد أغانى ترفع راية هذا الوطن حتى عنان السماء، والباحث عن التبتل والتضرع لله يجد في أغانيه الدينية ما يشبح حاجته ويملأ روحه سكونًا وإشراقًا..
حليم عاش محبوبًا ورحل وسط موجات حزن جمعت كل أطياف المجتمع في جنازة تاريخية خرجت فيها الملايين لوداع جثمانه للمرة الأخيرة، بل هناك من أسرف في الحزن على رحيله متجاوزًا حدود المعقول والمشروع!
لكنها مصر التي تستطيع بحكمتها التاريخية أن تميز بين الغث والسمين، بين المبدع الحق والدعىّ المزيف، ولم تستطع السنوات السبع والأربعون منذ فارقنا حليم أن تغير في حضوره شيئًا، بل كلما تقادم الزمن ترسخ هذا الحضور في ذاكرة الوطن..
الذي لم يعد يشهد هذا الزخم في العبقرية والإبداع كما كان في زمن حليم، الذي صمد في المنافسة مع أساطين الغناء في زمنه أمثال كوكب الشرق أم كلثوم، وفريد الأطرش، وغيرهما من رموز الزمن الجميل الذي كانت مصر بحق قبلة الريادة الحقيقية للشعوب العربية من المحيط إلى الخليج.
لا تزال كل الأجيال تتفاعل بشغف وحب، مع أغاني حليم كأنها صُنعت خصيصًا لأجلهم، تخاطب مشاعرهم، وتتعايش مع أحلامهم وآلامهم.
حليم تربع على عرش الاغنية
برع حليم في كل أنواع الأغاني، عاطفية ووطنية ودينية.. ومن ينسى أغنيته صافيني مرة، إحنا كنا فين، على قد الشوق، توبة، يا خلي القلب، في يوم في شهر في سنة، موعود، لقاء، رسالة من تحت الماء، حبيبها، قارئة الفنجان، جانا الهوى، حبيبتي من تكون..
ومن غير ليه، حلو وكداب.. ومن الأغاني الوطنية: العهد جديد، إحنا الشعب، على أرضها، ابنك يقولك يا بطل، حكاية شعب، صورة، عدى النهار، أحلف بسماها، البندقية إتكلمت، النجمة مالت على القمر وغيرها من أغانٍ صنعت الفارق ولا تزال.
رحل حليم في ريعان شبابه عن عمر يناهز 47 عامًا بعد إصابته بتليف في الكبد بسبب مرض البلهارسيا وقد ترك تراثًا هائلًا من الأعمال الفنية بين غناء وتمثيل وتلحين وتدريس لمادة الموسيقى؛ حيث صعد سلم المجد درجة درجة منذ تخرج في قسم التلحين عام 1948..
ثم عمل أربع سنوات مدرسًا للموسيقى بطنطا ثم الزقازيق وأخيرا القاهرة، ثم قدم استقالته من التدريس والتحق بعدها بفرقه الإذاعة الموسيقية عازفا على آله الأوبوا، حتى التقى صديق عمره مجدى العمروسى في 1951 ليكتشفه الإذاعى الكبير حافظ عبدالوهاب الذي أخذ اسم شهرته منه وتمت إجازته في الإذاعة في1952.
لم يكن حليم مجرد مطرب عادى بل كان فنانًا ذكيًا متشعب العلاقات جمعته علاقات وثيقة بالسياسيين والمبدعين والصحفيين والإعلاميين والكتاب والشعراء، حتى ذاع صيته وتعددت نجاحاته وبدأ كبار الملحنين ومشاهير الشعراء يطلبون وده ويتقربون منه حتي أنتجوا معه أعذب الأغاني وأشجي الكلمات..
حتي وصل صيته الي الوطن العربي وأصبح هو المطرب الأوحد الذي تربع علي عرش الأغنية الرومانسية والعاطفية والوطنية أيضا مما دعا الصحفي جليل البندراي أن يطلق عليه لقب "العندليب الأسمر".
حليم كان ولا يزال حلم كل مطرب يتطلع للشهرة والمجد، فلم يأت بعده من نجح في ملء فراغه أو حظى بمعشار ما حظى به العندليب من شهرة ومكانة وتأثير.. أحب حليم الحياة والعمل حتى آخر يوم في حياته وقاوم المرض اللعين بكل قوة حتى فاضت روحه إلى بارئها.. فهل يمكن لمثل حليم أن تنساه ذاكرة الوطن ؟!