أبو الزهراء يكافئ مادحيه (5)
طبقة جديدة، مستقلة، تتمثل في عدد قليل من الشعراء الذين مدحوا آل بيت سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، في مقدمتهم الفرزدق. والفرزدق هو شاعر عربي من العصر الأموي، اشتهر بالهجاء والفخر والرثاء، ويقال: "لو ضاع شعر الفرزدق لضاع ثلث اللغة".
للفرزدق قصائد في الرثاء والمديح واشتهر بالهجاء، في تلك الفترة كان يعتبر الشعر أداة سياسية، ويمثل الفرزدق حالة الانتقال من الثقافة البدوية التقليدية إلى ثقافة المجتمع الإسلامي الجديد الذي كان بطور التشكل.
ولد الفرزدق باسم همام بن غالب بن صعصعة الدارمي التميمي في اليمامة، اختلفت الروايات في مكان ولادته بعض الرواة يقول في اليمامة والبعض في الكاظمة (الكويت).
سمي الفرزدق لضخامة وتجهم وجهه نسبة إلى رغيف الخبز الضخم، والدته من قبيلة دبا، في سن خمسة عشرة عامًا عرف الفرزدق كشاعر، وقد نصحه الخليفة علي بن أبي طالب بالاهتمام بدراسة القرآن وحفظه. وتوفي بين عامي 728 أو 730م، في البصرى حيث دفن هناك.
عاش الفرزدق في البصرى، ومال شعره للبذاءة والتهكم، وعرف بهجائه لقبائل نهشل وفقيم، لذلك غضب عليه زياد بن أبيه عندما تولى البصرى، ففر إلى المدينة، حيث استقبله واليها سعيد بن العاص، وبقي فيها عشر سنين يكتب الهجاء متجنبًا وجوه المدينة.
عاش الفرزدق حياة بذخ وإسراف، وقد أدت أشعاره الغرامية لطرده من قبل الخليفة مروان الأول. وعندما علم بوفاة زياد بن أبيه والي البصرى، عاد الفرزدق مادحًا واليها عبيد الله بن زياد، في تلك الفترة أغلب أشعاره كانت عن الشؤون الزوجية.
في عام 694، عندما أصبح الحجاج حاكمًا على العراق مدحه الفرزدق، ولكن ذلك لم يدم طويلًا، كما صار شاعرًا مقرّبًا من الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك الذي حكم من 705 حتى 715. مدح الفرزدق سليمان ويزيد بن عبد الملك، إلا أن هذا الوفاق لم يدم طويلًا لولائه لآل البيت.
عندما حج هشام بن عبد الملك في عهد أبيه طاف في البيت، وحاول جاهدا أن يصل إلى الحجر الأسود، ولكنه لم يستطع بسبب الزحام الشديد، فأحضر كرسيا لنفسه وجلس عليه يشاهد الناس مع مجموعة من أعيان الشام..
قصيدة خالدة
وفي هذا الوقت أقبل زين العابدين علي بن الحسين بن الإمام علي أبي طالب، فطاف بالبيت، وما أن اقترب من الحجر الأسود حتى تنحى الناس له حتى سلم زين العابدين على الحجر.
فسأل رجل من أهل الشام هشاما: من هذا الذي هابه الناس هذه الهيبة؟! فقال هشام: لا أعرفه، وكان الفرزدق حاضرًا، فقال: أنا أعرفه، ثم قام فأنشد هذه القصيدة الخالدة، فغضب منه هشام وأمر بحبسه بين مكّة والمدينة.
هَذا الَّذي تَعرِفُ البَطحاءُ وَطأَتَهُ وَالبَيتُ يَعرِفُهُ وَالحِلُّ وَالحَرَمُ
هَذا اِبنُ خَيرِ عِبادِ اللَهِ كُلِّهِمُ هَذا التَقِيُّ النَقِيُّ الطاهِرُ العَلَمُ
هَذا اِبنُ فاطِمَةٍ إِن كُنتَ جاهِلَهُ بِجَدِّهِ أَنبِياءُ اللَهِ قَد خُتِموا
وَلَيسَ قَولُكَ مَن هَذا بِضائِرِهِ العُربُ تَعرِفُ مَن أَنكَرتَ وَالعَجَمُ
كِلتا يَدَيهِ غِياثٌ عَمَّ نَفعُهُما يُستَوكَفانِ وَلا يَعروهُما عَدَمُ
سَهلُ الخَليقَةِ لا تُخشى بَوادِرُهُ يَزينُهُ اِثنانِ حُسنُ الخَلقِ وَالشِيَمُ
حَمّالُ أَثقالِ أَقوامٍ إِذا اِفتُدِحوا حُلوُ الشَمائِلِ تَحلو عِندَهُ نَعَمُ
ما قالَ لا قَطُّ إِلّا في تَشَهُّدِهِ لَولا التَشَهُّدُ كانَت لاؤهُ نَعَمُ
عَمَّ البَرِيَّةَ بِالإِحسانِ فَاِنقَشَعَت عَنها الغَياهِبُ وَالإِملاقُ وَالعَدَمُ
إِذا رَأَتهُ قُرَيشٌ قالَ قائِلُها إِلى مَكارِمِ هَذا يَنتَهي الكَرَمُ
يُغضي حَياءً وَيُغضى مِن مَهابَتِهِ فَما يُكَلَّمُ إِلّا حينَ يَبتَسِمُ
بِكَفِّهِ خَيزُرانٌ ريحُهُ عَبِقٌ مِن كَفِّ أَروَعَ في عِرنينِهِ شَمَمُ
يَكادُ يُمسِكُهُ عِرفانُ راحَتِهِ رُكنُ الحَطيمِ إِذا ما جاءَ يَستَلِمُ
اللَهُ شَرَّفَهُ قِدمًا وَعَظَّمَهُ جَرى بِذاكَ لَهُ في لَوحِهِ القَلَمُ
وقد أجزل سيدنا علي بن الحسين، رضي الله عنهما، العطاء، إلا أنه رده بلطف، مؤكدا أنه مدحه عن حب لا طمعا في مكافأة.