الليلة الأخيرة، مشهد الوداع في حياة الإمام الأعظم (3 – 3)
في هذه السلسلة، نتناول استعراضًا لليالي الأخيرة في حياة بعض الصالحين، ممن يصدُق عليهم ما نصفه بـ "حُسن الخاتمة"، والفراق الطيب، والرحيل الجميل، بعد حياة حافلة بالإيمان بالله ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم، وبالحسنات، والالتزام بآداب الإسلام، وتعاليم الشريعة السمحة.
أجمع العلماء في عصر الإمام أبي حنيفة النعمان على أنه لم يجتمع لأحد غيره في ذلك العصر ذكاء وقوة بادرة وعلم وقوة استنتاج.
كان أبو حنيفة يختم القرآن في كل يومٍ، ثم حين اشتغل بالأصول والاستنباط واجتمع حوله الأصحاب أخذ يختمه في ثلاثٍ في الوتر.
رفض منحة المنصور
وذات مرة منح أبو جعفر المنصور أبا حنيفة ثلاثين ألف درهم، فلما قدم عليه بغداد قال: "يا أمير المؤمنين، إنني غريب في بغداد، وليس لي منزل، فاجعلها في بيت المال، وليس عندي مكان أحفظها فيه, فإذا خرجتُ من بغداد أخذتُها.
قال له أبو جعفر: ليكنْ ذلك، فلما مات أبو حنيفة أُخرجت ودائع الناس من بيته، فقال أبو جعفر: لقد خدعنا أبو حنيفة". (يعني لم يأخذ المال، وأعاده إليه بلطف).
مرة كان أبو حنيفة عند أبي جعفر المنصور، وعنده قاضٍ من أعداء أبي حنيفة، كان ينكر عليه، فسأله سؤالًا محرجًا، قال له:
"إذا أمرني الخليفة بقتل امرئ، أأقتله أم أتريث؟
(سؤال محرج, إذا قال له: لا تقتله، واعصِ أمرَ الخليفة, وقع في مشكلة، وإذا قال له: اقتله فقد أغضب الله عز وجل).
قال له الخليفة: على الحق أم على الباطل في هذا الأمر؟
(فالكرة رُدَّت إلى القاضي)، فقال له: على الحق، فقال له أبو حنيفة: كن مع الحق، فلما خرج, قال أبو حنيفة: "أراد أن يقيدني فربطته".
قال له مرةً أبو جعفر: "يا أبا حنيفة لو تغشيتنا (أي تعال إلى عندنا)، قال: ولمَ أتغشاكم، وليس لي عندكم شيءٌ أخافكم عليه، وهل يتغشاكم إلا من خافكم على شيء؟ وأضاف: إنك إن قربتني فتنتني, وإن أبعدتني أزريتني". (أيْ حقرتني).
موقفه من الخوارج
ومرة دخل عليه خارجيان، والخوارج يُكَفِّرون بالذنب الصغير، فقالا له، وسيوفهما عليه ليقتلاه: "فلان فعل كذا وكذا، مسلم أم كافر؟ فإذا قال لهم: كافر قتلوه، وإذا قال لهم: مسلمٌ, قتلوه أيضًا، (لأنهم يعتقدون أنه كافر)، فقال لهم: هذا الرجل يهودي أم نصراني؟ فقالا: لا, هو مسلمٌ، قال: هذا هو الجواب".
ويعني أن المتهم لديهم مسلم، ولا يُقتل.
وكان أبو حنيفة يكثر من أداء فريضة الحج حتى قيل إنه حج 55 مرة، وقد مكنته هذه الرحلات المتصلة إلى بيت الله الحرام أن يلتقي بكبار الفقهاء والحفّاظ، يدارسهم ويروي عنهم.
انتشار المذهب الحنفي
انتشر مذهب أبي حنيفة في البلاد منذ أن مكّن له أبو يوسف بعد تولّيه منصب قاضي القضاة في الدولة العباسية، وكان المذهب الرسمي لها، كما كان مذهب السلاجقة والدولة الغرنوية ثم الدولة العثمانية، وهو الآن شائع في أكثر البقاع الإسلامية، ويتركز وجوده في مصر والشام والعراق وباكستان والهند والصين.
أبو حنيفة والسياسة
في السياسة كان أبو حنيفة محبًّا لآل البيت ومناصرا لهم، ويرى الحق معهم، فأدى ذلك إلى إيذائه أكثر من مرة.
وتعرَّض بسبب حبه لهم لمِحَن كثيرة في العهدين الأموي والعباسي، لكنه كان متزنًا وعاقلًا وفقيهًا في آرائه، غير مغالٍ، فهو إن كان يحب الإمام عليًّا بن أبي طالب إلا أنه لا يرفعه في المنزلة عن أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما، وإن كان يجعله في منزلة أعلى من منزلة عثمان إلا أنه أيضًا كان يترحم على عثمان أكثر ما يكون الترحم، ولم ينقصه يومًا.
في العهد الأموي خرج يزيد بن علي من آل البيت على هشام بن عبدالملك، فأبى أبو حنيفة إلا أن يمده بالمال، فلما استشهُد يزيد بن علي لم يدع ابن هبيرة (عامل هشام على العراق) الأمر يمرُّ على أبي حنيفة مرور الكرام، فأراد أن يختبره في ولائه للدولة الأموية، فعرض عليه القضاء، فأبى أبو حنيفة أن يتولاه، فحبسه ابن هبيرة وأمر بجلده، فجُلِد لمدة ثلاثة أيام كاد فيها أبو حنيفة يهلك.
انقضت الدولة الأموية، وأقيمت على أنقاضها الدولة العباسية، وهي دولةٌ هاشميةٌ فتفاءل بها أبو حنيفة، وبايعها (لم تكن له بيعة في عنقه للدولة الأموية) مستبشرًا بها لأنهم أولاد عم لآل علي، وظل معهم في وفاق إلى أن خرج محمد بن عبدالله (النفس الزكية) وأخوه إبراهيم فشجعهما، ويقال في بعض الروايات: إن أبا حنيفة ثبَّط الحسن بن قحطبة، قائد جيوش الدولة العباسية، عن قتال النفس الزكية.
أزمة الإمام مع الخليفة
قضى أبو جعفر المنصور على ثورة النفس الزكية وقتله هو وأخاه، فغضب أبو حنيفة لذلك وداخلته الريبة والشك من النظام الجديد، وأيقن أنه لم يختلف عن سابقه.
وكان دائمًا ما ينتقد أحكام القضاء إن حصل بها الزيْف، وحادت عن الحق، ويصل ذلك إلى أبي جعفر المنصور.
ويُروى أن أهل الموْصل نقضوا بيعة أبي جعفر المنصور، وكان المنصور قد شرط عليهم أنهم إذا نقضوا بيعته أُحلت دماؤهم، فجمع المنصور الفقهاء ليستشيرهم، فقال أبو جعفر: أليس المؤمنون عند شروطهم، وهم قد شرطوا ألا يخرجوا فلا أرى إلا أنه قد حلت دماؤهم، فقال رجل: يدك مبسوطة عليهم، وقولك مقبولٌ فيهم، فإن عفوْت فأنت أهلُ العفو، وإن عاقبتَ فبما يستحقون.
فتكلم أبو حنيفة، وقال: إنهم شرطوا لك ما لا يملكونه، وشرطت عليهم ما ليس لك، لأن دم المسلم لا يحل إلا بأحد معانٍ ثلاث، فإن أخذتهم أخذت بما لا يحل، وشرط الله أحق أن تفي به.
وكان أبو حنيفة ينقد قضاء القضاة بشدة ويبين أخطاءهم، فاتخذ المنصور هذا الموقف ذريعة للتخلص منه فعرض عليه من جديد تولي منصب القضاء.
فلما أصرَّ على الرفض مرارًا، وقال إني لا أصلُح، قال الخليفة بل أنت تكذب أنت تصلُح، فقال: أرأيت، أنت تقول عني كذاب، فإني لا أصلح للقضاء.
طلبه المنصور إلى بغداد، فحمل الإمام إلى هناك، وفي مجلس الخليفة، دعا المنصور أبا حنيفة إلى منصب القضاء، وهو يعلم علم اليقين أن الإمام سيرفض تمامًا كما فعل من قبل مع الأمويين وواليهم ابن هبيرة.
أراد المنصور بهذا العرض أن يختبر مدى طاعة وولاء أبي حنيفة للدولة العباسية.
وفي مجلس المنصور دار هذا الحوار الفريد بين الخليفة المستبد والإمام الكبير، فعن مغيث بن بديل قال: دعا المنصور أبا حنيفة إلى القضاء فامتنع، فقال المنصور: أترغب عما نحن فيه؟ (أي يشكك في طاعة الإمام للدولة).
فقال أبو حنيفة: لا أصلح.
فقال المنصور وقد احتدَّ: كذبتَ.
فقال أبو حنيفة: فقد حكم أمير المؤمنين عليَّ أني لا أصلح، ثم استخدم أبو حنيفة مهارته الفائقة في الإقناع والقياس فقال: فإن كنت كاذبًا فلا أصلُح (يعني لكذبه)، وإن كنت صادقًا فقد أخبرتكم أني لا أصلح.
وعندها غضب أبو جعفر المنصور بشدة وأقسم بأغلظ الأيمان ليليَّن الإمام منصب القضاء.
وكان من الطبيعي أمام هذا الغضب وهذه الأيمان المغلظة وسطوة الخلافة أن يرضخ أبو حنيفة لكل هذه الضغوط ويوافق.
ولكنَّ أبا حنيفة العالم الرباني الذي لا يُبالي إلا بسخط الله عز وجل وحده وغضبه، والذي يعلم عواقب أمثال هذه المناصب المشروطة يرد على الخليفة المنصور وقسمه بقسم أغلظ ويمين أوكد.
ويقسم أبو حنيفة ألا يلي هذا المنصب الخطير، ومع قوة ردِّ الإمام لم يستطع الخليفة المنصور أن يرد.
وعندها يتدخل الربيع حاجب الخليفة المنصور في الحوار لعله أن يستطيع إثناء أبي حنيفة عن رأيه، ويقول للإمام أبي حنيفة مهددًا: ترى أمير المؤمنين يحلف وأنت تحلف؟ فرد أبو حنيفة بهدوئه ووقاره وفطنته المعهودة: أمير المؤمنين على كفارة يمينه أقدر مني، وهو بذلك يؤكد على إصراره ورفضه لمنصب القضاء.
عندها قرر الخليفة المنصور أن يصعد ضغوطه على الإمام فخيَّره بين قبول القضاء أو السجن.
كان الخليفة يريد أن ينتقم منه، كما حدث مع الإمام مالك.
فأصر أبو حنيفة على الرفض، فأمر المنصور بضربه على مشهد من العامة أولًا ثم حملوه في القيود إلى سجن بغداد.. ومُنِعَ من الفتوى والجلوس إلى الناس.
وفي السجن عانى الإمام أبو حنيفة من التضييق والتشديد والتهديد بالقتل، وأمر المنصور بالتشديد على الإمام وكان وقتها على مشارف السبعين.
ووهن جسده وحطمته دروس العلم وسؤالات الناس، ومع ذلك لم يتراجع أبو حنيفة عن قراره ولم تلن عزيمته قدر أنمُلة.
وقبِلَ أبو حنيفة أن يعمل كأحد العمال في بناء سور بغداد تفاديًا للنقمة.
وفاته
ولمّا أحسَّ بالموت سجد فخرجت نفسه وهو ساجد عام 150 هجري.
تُوفي الإمام أبو حنيفة في سجنه في رجب سنة 150هـ، وصعدت روحه إلى بارئها وهي في قيود السلطان.
وقيل إن المنصور قد دس على الإمام أبي حنيفة من وضع له السم في السجن.
وكان المنصور يردد بعد وفاة الإمام: من يعذرني من أبي حنيفة حيًا وميتًا.
توفي أبو حنيفة في بغداد بعد أن ملأ الدنيا علما وشغل الناس في (11 من جمادى الأولى 150 هـ = 14 من يونيو 767م).
يوم مات أبو حنيفة، صلى عليه الناس، صلاة الجنازة، ست مرات، من كثرة الزحام، وظل الناس يزورون قبره أكثر من أربعين يومًا بعد وفاته.
وروى أحدهم أنه رأى أبا حنيفة في النوم بعد موته، قال:
"يا أبا حنيفة؛ إلام صرت؟ قال: إلى رحمة الله تعالى، قلتُ: بالعلم؟، قال: هيهات؛ للعلم شروطٌ وآفاتٌ، قَلَّ من ينجو منها، قلتُ: ولكن بمَ؟ قال أبو حنيفة: بقول الناس ما لم أكُن عليه".. (أي أنه كان في جوهره أفضل مما كان الناس يظنون فيه).
ونقدم لكم من خلال موقع (فيتو)، تغطية ورصدًا مستمرًّا على مدار الـ 24 ساعة لـ أسعار الذهب، أسعار اللحوم ، أسعار الدولار ، أسعار اليورو ، أسعار العملات ، أخبار الرياضة ، أخبار مصر، أخبار اقتصاد ، أخبار المحافظات ، أخبار السياسة، أخبار الحوداث ، ويقوم فريقنا بمتابعة حصرية لجميع الدوريات العالمية مثل الدوري الإنجليزي ، الدوري الإيطالي ، الدوري المصري، دوري أبطال أوروبا ، دوري أبطال أفريقيا ، دوري أبطال آسيا ، والأحداث الهامة و السياسة الخارجية والداخلية بالإضافة للنقل الحصري لـ أخبار الفن والعديد من الأنشطة الثقافية والأدبية.
تابع موقع فيتو عبر قناة (يوتيوب) اضغط هــــــــــــنا
تابع موقع فيتو عبر قناة (واتساب) اضغط هــــــــــــنا
تابع موقع فيتو عبر تطبيق (نبض) اضغط هــــــــــنا
تابع موقع فيتو عبر تطبيق (جوجل نيوز) اضغط هــــــــنا