الليلة الأخيرة، مشهد الوداع في حياة سعيد بن المسيب (3 – 3)
في هذه السلسلة، نتناول استعراضًا لليالي الأخيرة في حياة بعض الصالحين، ممن يصدُق عليهم ما نصفه بـ "حُسن الخاتمة"، والفراق الطيب، والرحيل الجميل، بعد حياة حافلة بالإيمان بالله ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم، وبالحسنات، والالتزام بآداب الإسلام، وتعاليم الشريعة السمحة.
عانى ابن المسيب الأمرين من ظلم الحكام والولاة في عصر بني أمية، حيث كان يرفض مبايعة ملوكهم، فوقع ضحية لأكثر من ابتلاء، حتى تدهورت صحته، ووقع فريسة المرض، ومع ذلك فلم يقصِّر في عبادة الله، حتى لقي ربه وهو عنه راضٍ.
ومن نصائحه في معاملة الظالمين، ما رواه أبو عيسى الخراساتي، عن سعيد بن المسيب، قال: لا تملئوا أعينكم من أعوان الظلمة إلا بإنكار من قلوبكم لكي لا تحبط أعمالكم الصالحة.
أزمات بن المسيب مع بني أمية
عاصر الإمامُ سعيد بن المسيِب عهدَ الخلفاء الراشدين، عثمان وعليًّا، رضي الله عنهما، ومن بعدهما معاوية بن أبي سفيان.
وجالس الصحابة وعاشرهم، ونال من علومهم، ثم رأى بعد ذلك تبدُّل الأحوال وتغيُّر نفوس الناس.
ورأى الاقتتال على الملك فلم يرضَ على سياسة بني مروان، فآلى على نفسه ألا يسكت على ظلم يراه ومنكرٍ يظهر، ورفض أن يأخذ عطاءه من بيت المال، واستغنى عن ذلك كله، وكان يقول: لا حاجة لي فيه، حتى يحكم الله بيني وبين بني مروان.
كانت أولى محنه مع بني أمية سنة 63هـ، عندما وقعت فاجعةُ الحرة بأهل المدينة المنورة، وانتهك جيش يزيد بن معاوية، بقيادة مسلم بن عقبة المرِّي حرمة مدينة رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم.
وأخذ الطاغية مسلم بن عقبة المرِّي (الذي سماه المسلمون آنذاك "مسرف") في استعراض الناس على السيف، فقتل منهم المئات، وأحضر الإمام سعيدَ بن المسيِّب بين يديه، فقال له: بايِع، فقال سعيد: أُبايع على سيرة أبي بكر وعمر، فغضب مسلم من ذلك؛ لأنَّ الطغاة عبرَ العصور تؤرِّقهم وتقُضُّ مضاجعهم سيرةُ العمرين، وأخبار العدل والإحسان في عهدهما، فغضب الطاغية وأمر بضرب عنقه، فقام أحدُ أعيان المدينة، وشهد أنَّ الإمام سعيد مجنونٌ لا يُقبل منه، فأعرضَ عنه الطاغية وتركه.
أزمته مع ابن الزبير
ولما استوثق الأمر لعبد الله بن الزبير سنة 64هـ، أرسل جابرَ بن الأسود واليًا من طرفه على المدينة، فدعا الناس إلى البيعة لابن الزبير، فقال سعيد بن المسيِّب: لا، حتى يجتمع الناس (يقصد في جميع الأمصار)، فضربه ستين سوطًا، فبلغ ذلك ابن الزبير، فكتب إلى جابرٍ يلومه، ويقول: ما لنا ولسعيد.
وفي سنة 84 هـ تُوفِّي عبد العزيز بن مروان بمصر، وكان ولي عهد الخليفة عبد الملك بن مروان، فدعا عبد الملك الناس إلى مبايعة ولديه الوليد وسليمان بالعهد، ولما طلب من سعيد المبايعة رفض بشدَّة لعدم صلاحيَّة الوليد للولاية، بحسب رأي الإمام سعيد، فقام والي المدينة هشامُ بن المغيرة بجلد الإمام سعيد في محضرٍ عامٍّ من الناس، وقام بتشهيره على حمار، وقد ألبسوه ثوبًا من شعر وطافوا به في المدينة، ثم ردّوه إلى السجن، وكان الإمام وقتها قد جاوز الستين سنة، ومع ذلك لم يُعط بيعته وصمَّم على رأسه، ولو هدَّدوه بالقتل ما تغيَّر موقفه أبدًا.
وبعد أن ضربوه وشهروه وحبسوه، منعوه من إلقاء الدروس بالمسجد النَّبويِّ، ومنعوا أحدًا من الجلوس إليه، فكان الإمام العلم الذي يفتقر الناس إلى علمه، أفقهَ فقهاء المدينة، والمعول عليه عند نوازل الأمور، يجلس وحيدًا في المسجد، لا يجرؤ أحدٌ على مجالسته، وكان هو يشفق على الغرباء أن ينالَهم أذىً إذا طلبوا الحديث معه، فيقول لمن جاءه: إنَّهم قد جلدوني ومنعوا الناس أن يُجالسوني.
ولَمَّا تولى الخلافةَ الوليد بن عبد الملك سنة 86هـ قام بزيارة المدينة، ودخل المسجد النبويَّ، فوجد حلقة علم سعيد بن المسيِّب، فأرسلَ يطلبه فرفضَ الإمام سعيد بعزَّة العالم واستعلاء المؤمن الحقِّ أن يفضَّ درس علمه ويذهب للخليفة، فغضب الوليدُ بشدَّة وهمّ بقتله.
سببان لحقد الوليد على سعيد
وكان الوليدُ يبغض الإمام سعيد بن المسيِّب بوجهٍ خاص لسببين: أوَّلهما رفض سعيد مبايعته بولاية العهد من قبل، ثانيهما رفض سعيد طلب خطبة الوليد لابنته التي زوَّجها على ثلاثة دراهم، لتلميذه كثير بن أبي وداعة.
ولما رأى الناس عزم الوليد على الفتك بالإمام سعيد، قالوا له: يا أمير المؤمنين، فقيهُ المدينة، وشيخُ قريش، وصديقُ أبيك، وأخذوا في تهدئته حتى صرفوه عنه.
وعلى الرغم من كثرة المحن التي تعرض لها الإمام سعيد أيام الأمويين إلا أنه كان يرفض الخروج عليهم أو حتى الدعاء عليهم، فلقد قال له رجل من آل عمر بن الخطاب: ادعُ على بني أمية. قال سعيد: اللهم أعزَّ دينك، وأظهر أولياءك، واخزِ أعداءك، في عافية لأمة محمد، صلى الله عليه وسلم. وهكذا يكون علماء الأمة الكبار، لا يشخصنون الأمور.
سعيد بن المسيب في أواخر حياته
كانت حياة سعيد بن المسيب، رحمه الله، مليئة بالمتاعب والمشاحنات، جرت عليه الكثير من الآلام، فقد عانى من السجن، والجلد والمقاطعة، وتعرض للقتل، وضعُف بصره في أخريات حياته، ولما عُرض عليه أن يخرج إلى وادي العقيق ليتداوى اعتذر لأن خروجه سيحرمه من حضور الجماعة في مسجد رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
عن عبد الرحمن بن حرملة، قال: دخلتُ على سعيد بن المسيِّب وهو شديد المرض، وهو يصلي الظهر، وهو مستلقٍ يومىء إيماءً، فسمعته يقرأ: ﴿والشَّمسِ وضُحاها﴾ [الشمس:1].
وعن عبد الرحمن بن الحارث المخزوميِّ، قال: اشتدَّ وجعُ سعيد بن المسيِّب، فدخل عليه نافع بن جبير يعودُه فأُغمي عليه، فقال نافع: وجِّهوه (أي إلى القبلة)، ففعلوا، فأفاق، فقال: مَن أمركم أن تُحوِّلوا فراشي إلى القبلة، أنافع؟ قال: نعم. قال له سعيد: لئن لم أكن على القِبلة والمِلَّة، والله، لا ينفعُني توجيهكم فراشي.
وعن يحيى بن سعيد، قال: لَمَّا احتضر سعيد بن المسيب، ترك دنانير، فقال: اللهمَّ، إنك تعلم أنِّي لم أتركها إلا لأصونَ بها حسبي وديني.
وفاته
ردد بعض المؤرخين أن سعيد بن المسيب مات مقتولا، لكن الصحيح أن تُوفي على فراشه.
وعن عبد الحكيم بن عبدالله بن أبي فروة، قال: مات سعيد بن المسيِّب بالمدينة، سنة 94هـ، في خلافة الوليد بن عبد الملك، وهو ابنُ خمس وسبعين سنة، وكان يُقال لهذه السنة التي مات فيها سعيد: سنة الفقهاء؛ لكثرة من مات منهم فيها.
توفي ابن المسيب سنة 94 هجرية في أيام خلافة الوليد بن عبد الملك، عن عمر ناهز 75 عاما.
وقد أوصى أثناء مرضه الذي مات على أثره، فقال: "إذا ما مُتُّ، فلا تضربوا على قبري فُسطاطًا، ولا تحملوني على قطيفة حمراء، ولا تتبعوني بنار، ولا تُؤْذِنُوا بي أحدًا، حسبي من يُبَلِّغني ربي، ولا يتبعني راجز".
وقد ترك سعيد من الأبناء سعيد ومحمد وإلياس وأم عمرو وأم عثمان وفاختة.
ونقدم لكم من خلال موقع (فيتو)، تغطية ورصدًا مستمرًّا على مدار الـ 24 ساعة لـ أسعار الذهب، أسعار اللحوم ، أسعار الدولار ، أسعار اليورو ، أسعار العملات ، أخبار الرياضة ، أخبار مصر، أخبار اقتصاد ، أخبار المحافظات ، أخبار السياسة، أخبار الحوداث ، ويقوم فريقنا بمتابعة حصرية لجميع الدوريات العالمية مثل الدوري الإنجليزي ، الدوري الإيطالي ، الدوري المصري، دوري أبطال أوروبا ، دوري أبطال أفريقيا ، دوري أبطال آسيا ، والأحداث الهامة و السياسة الخارجية والداخلية بالإضافة للنقل الحصري لـ أخبار الفن والعديد من الأنشطة الثقافية والأدبية.
تابع موقع فيتو عبر قناة (يوتيوب) اضغط هــــــــــــنا
تابع موقع فيتو عبر قناة (واتساب) اضغط هــــــــــــنا
تابع موقع فيتو عبر تطبيق (نبض) اضغط هــــــــــنا
تابع موقع فيتو عبر تطبيق (جوجل نيوز) اضغط هــــــــنا