تقصير أفضى إلى موت
أن تفقد قطعة منك إحساس تظل مرارته في قلبك وإن حاولت التخطي.. تحاوطتك صور ومشاهد وذكريات تزداد كلما أغمضت عينيك.. تبقى تفاصيل الليلة الأخيرة والمكالمة الأخيرة باقية في ذاكرتك وأذنيك لا تصمت أبدا.. موقف تشعر معه وكأنك تحترق بنيران حزن الرحيل وألم الفقد الذي لا يهدأ ولو قليلًا.
هذه هي حالة كل من فقد غالٍ أيًا كانت درجة قربه منك أو قرابته لك، وليس أغلى في الحياة من الأبناء، إن طلاب أتوبيس الموت لم يرسلهم آباؤهم وتودعهم دعوات أمهاتهم كي يموتوا على طريق الجلالة..
نعم إن الموت حق وأسبابه تتعدد ولكن المسؤولية واحدة حتى وإن حاولنا توزيعها لنخلص أنفسنا من عبئها أو تحميلها لكبش فداء.. سائق متهور السرعة.. عامل تحويلة.. فردة كاوتش ضربت.. وكلما كان الحادث مروعًا كلما رفعنا درجة الإقالات والتحويل للتحقيقات.
إن حادث أتوبيس الجلالة الذي راح ضحيته زهرات حاولت التفتح.. قطرات ندى لم يطلع فجرها بعد.. رحم الله متوفيهم وشفى مصابيهم لا يجب أن تتفرق مسؤوليته بين القبائل، كيف للجامعة التي يتعلم فيها الطلاب بمبالغ ليست بالقليلة أن تترك أبناءها لحافلة تتبع إحدى شركات النقل الخاص كما جاء على لسان أحد مسؤوليها؟!
كيف لا يوجد أتوبيس خاص بها يحمل شعارها يخضع لإشرافها تتحمل مسؤوليته؟! وإن كان لديها لماذا لم يتم نقل الطلاب في تلك الليلة المشؤومة؟! ولكن للحقيقة عندما وقع الحادث هُرِع مسؤولوها مشكورين لتقديم المساعدات.
كيف لطريق مثل طريق الجلالة المُنشأ منذ سنوات يظل وكما قال بعض أولياء الأمور بلا خدمات حقيقية، لا يوجد به مستشفى حتى ولو للطوارئ؟! إين كانت وزارة الصحة طيلة هذه السنوات مما يضطرنا إلى الذهاب في حال الحوادث إلى مجمع السويس الطبي؟!
كيف لا تصدر الوزارة بيان اعتذار لأهالي الضحايا عن عدم وجود هذا المستشفى؟! لماذا لم يذهب السيد وزير الصحة إلى مكان الحادث بنفسه ويكتفي بإرسال نائبه لمتابعة الأمر؟!
أين وزارة التعليم العالي من الرقابة على تفاصيل دقيقة من شأنها المحافظة على سلامة أرواح طلاب الجامعات الخاصة وغيرهم؟ هل تركت المسؤولية لتلك الجامعات أم أن الأمر ليس من اختصاص الوزارة من الأساس؟
إنها مجرد تساؤلات تُحِيلُنا إلى السؤال الأهم في ظني وهو على من تقع المسؤولية ومن المسؤولون الحقيقيون عن أي إهمال وتقصير أفْضِي إلى موت هؤلاء الشباب؟! الأهالي الذين استأمنوا السادة المسؤولين على أرواح أبنائهم فقدموا لهم طريقا بلا خدمات حقيقة وجامعة تركت طلابها لشركات نقل خاصة؟!
أم السادة المسؤولون أنفسهم؟ الذين تملأ بياناتهم كل الشاشات والمواقع الإخبارية بما فيها من عبارات مللناها من نوعية الأمر بسرعة التوجه إلى مكان الحادث.. توفير كل الرعاية الصحية للمصابين.. وخالص عزائنا لأسر للمتوفين.. جار التنسيق مع بقية الوزارات لعمل ما يلزم.. صرف مبلغ وقدره كذا لأسر الضحايا.
هل سنرى نفس مشهد اجتماعات السادة المسؤولين في الحكومة لبحث أسباب الحوادث والمعلومة للجميع من قطارات وحافلات وغيرها والتي تنتهي كالمعتاد بمجموعة من الإقالات لموظفين برتب أقل؟ أم سنرى شجاعة الإستقالة لكل من وقع حادث الجلالة وغيره تحت مسؤوليته؟
أجدني الآن ودون عناء مني أو محاولة للتذكر أرى مشهد المرافعة لعملاق التمثيل من وجهة نظري أحمد زكي، في فيلم ضد الحكومة، بحوار هو الأصدق للرائع بشير الديك بوعي المخرج المهموم بقضايا وطنه المبدع عاطف الطيب بقصة الكاتب الراحل وجيه أبو ذكري...
أجدني أسمع صوت مصطفى خلف وأرى دموعه وهو يقول: ليس لي مصلحة خاصة ولكن لي مستقبل في هذا البلد أريد أن أحميه.. مستقبل أرانا نسحقه دون أن يهتز لنا جفن، نقتله ونحن متصورون أنه من طبائع الأمور، اللي راحوا دول بني ادمين.. هؤلاء التلاميذ الذين كانوا في أتوبيس الموت لم يجنوا شيئا سوى أنهم أبناؤنا، أبناء العجز وقلة الحيلة.