رئيس التحرير
عصام كامل

يا ريس.. الترزي مات

لقد أحببته وأنا لم أعش زمانه.. رأيته شريفًا رغم كل حملات التشويه التي طالته شخصًا وتاريخًا وإنجازًا.. شعرت بفخر إنجازاته وقوة إرادته في تحويل كل حلم مهما صعب ورغم كل معوق إلى واقع.. حزنت على رحيله ولم أسر في جنازته كالملايين الخمسة الذي مشوا خلف نعشه في القاهرة وحدها..

 
نعم لقد أحببت جمال عبدالناصر بفطرة الوعي في سنوات التكوين.. بالوراثة من أبوين كان أبو خالد بالنسبة لهما مثلا وزعيمًا ومصدر فخر.. بالقراءة كلما زاد العمر سنة.. وما زلت أذكر وجه والدي الملئ بالشجن وهو يصف لي حال قريتنا الصغيرة يوم أن رحل الزعيم، عندما ارتدت سيداتها السواد وخرج رجالها خلف نعش فارغ يبكون فراق من أعاد لهم إنسانيتهم.

 
ما زلت أذكر المُجَمع ذلك المصطلح الذي انتشر في زمان عبد الناصر بما فيه من وحدة صحية وأخرى بيطرية ومدرسة ابتدائية تعلمت فيها وقت أن كان التعليم تعليما وليس دراسة وتلقينًا.. كبرت وكبر معي حبي الموضوعي لهذا الرجل الذي لم أره إلا صورة.. لم أسمعه إلا خطبة مذاعة.. لم ألتقه إلا من خلال حوار عنه بحكم مهنتي..

 

ومن أجمل وأعمق الحوارات التي أجريتها عن أبو خالد ذلك الذي كانت ضيفته الدكتورة هدى جمال عبدالناصر.. عشت معها وقائع.. وعرفت منها تفاصيل.. وصححتُ من خلالها أكاذيب نالت عبدالناصر رئيسًا وإنسانًا.. ولكن الأكثر متعة في الحوار هو الحديث عن عبدالناصر الأب الذي لم يكن يميزه عن آباء زمانه سوى مُسماه الوظيفي رئيس الجمهورية.


كان يجتمع بأسرته على وجبة الغذاء كأي رب أسرة يجلس على رأس المائدة يدير حوارًا يوميًا يسأل فيه عن أحوال أولاده وماذا حوى يومهم من تفاصيل، وربما يكون عائدًا لتوه من حفل مدرسي حضره كغيره من أولياء الأمور..


يأكل كما يأكل عموم الناس في هذه الوجبة التي لم تعد تحتفظ في أيامنا هذه بقدسيتها كما كانت وهو من مؤسفات الأمور.. وقد حكى الأستاذ محمد حسنين هيكل جزءًا من حوار له مع الزعيم عبدالناصر مفاده أن نوعية الأطعمة كغيرها قد أصابها التطوير، فرد أبو خالد أنه لا يعرف سوى ما يأكل أهل مصر من أرز وخضار ومعه لحم أو فراخ.

 

ولقد حكت لي الدكتورة هدى أن السيدة تحيه كاظم زوجة الرئيس عبدالناصر، كانت هى من تطهو الطعام وتصنع كحك العيد أيضا مثلها مثل أمهات وزوجات زمانها، ولم يضف لها كونها زوجة لرئيس الجمهورية أي إختلاف.


يهوى الاستماع إلى الراديو الذي كان دائما بجوار سريره ووسيلة تعرف بها أسرته استيقاظه ونومه، يهوى التصوير والشطرنج ومشاهدة أفلام السنيما بآلة عرض يقوم هو بتشغيلها.

 
وقد حكت الدكتورة هدى عبد الناصر ضمن ما حكت في حواري معها أنه ذات مرة أُهديى الزعيم عبدالناصر قطعة قماش فاخرة، فأرسلها إلى مصانع الغزل والنسيج في المحلة الكبرى كي يصنعوا مثلها جودة ومتانة صناعة، وأن المحلة الكبرى كانت المصدر الرئيس لكل ما ارتدى أبو خالد.. 

 

وأنه بعد 67 -ذلك الجرح الذي أدمى قلب مصر وعبدالناصر على السواء، وأعلن بصدق وشفافية مسؤوليته عنه، وأصلح ما أدى إليه من أسباب، وسرعان ما بدأ الاستشفاء منه بحرب الاستنزاف- حكت الدكتورة هدى أن بِدَل الرئيس أصابها القدم فلفتوا نظره فطلب منهم استدعاء الترزي، فإذا بالاستغراب يرتسم على الوجوه، وقالوا له يا ريس الترزي مات، وهو ما ينفي كل ما تشدق به البعض عن ترف حياة عبدالناصر الذي كان مصريا خالصا قلبًا وقالبا.

 


 لقد كان الزعيم الراحل جمال عبدالناصر وكما قال الأستاذ محمد حسنين هيكل في كتابه لمصر لا لعبد الناصر.. لقد كانت تجربة عبدالناصر بإيجابياتها وسلبياتها تجربة مصرية عربية أصيلة.. ملك جماهير واسعة عاشتها معه وأعطته ما لم تعطه لأحد قبله ولا بعده.. لقد وجدت الجماهير في تجربة عبدالناصر أمانيها الضائعة وفي كلماته تعبيرا عن رغباتها.. وهكذا فأن الإنسان عبدالناصر عند ربه والتجربة لجماهيرها والتاريخ مسؤولية الأجيال القادمة..

الجريدة الرسمية