عودة للكانون
قلت وما زلت أقول إن أي محاولة لمجاراة المصريين في قدرتهم الفائقة على السخرية من واقعهم مهما صعب.. ومرارة أيامهم وإن زادت.. وآلامهم ولو تضاعفت هي محاولة فاشلة.. لقد استيقظ المصريون بالأمس على قرار حكومي برفع سعر أسطوانة البوتاجاز خمسون جنيها دفعة واحدة، ليصبح سعرها من المستودع 150 جنيهًا أما خارجه فحدث ولا حرج، فسيحكم السعر ذلك المصطلح البغيض المسمى العرض والطلب.
فور نشر هذا القرار بدأ المصريون المشهورون بخفة الظل التي لا مثيل لها في نشر سلسلة من التعليقات الكوميدية الساخرة ولكنها من قبيل الكوميديا السوداء، وعلت ضحكاتهم التي هي كالبكاء، واستوقفني تعليق طالب صاحبه بالعودة إلى الكانون..
ولمن لا يعرف الكانون هو وسيلة طهي كانت منتشرة في الريف المصري، وهو بناء صغير من الطوب اللبن، عادة ما يكون مكانه بجانب فرن الخبيز، كما نقول في قرانا النقية..
والبعض أدخل عليه تعديلات معمارية فاستخدم الطوب الأحمر في بنائه.. توضع في الكانون أعواد الحطب المشتعلة، ثم ننتظر قليلا حتى تبدأ في التحول إلى جمرات لنبدأ في طهي الطعام.
وأصدقكم القول إنه سيكون أجمل طعام ستأكله في حياتك، خاصة لو حلة محشي كرنب في خميس شتوي وأنت عائد من مدرستك أو عملك.
بعد هذا الوصف التفصيلي للكانون نعود إلى قرار الحكومة برفع سعر أسطوانة البوتاجاز، وأتساءل لماذا تأتينا قرارات رفع الأسعار صباحًا كده على ريق النوم، نستيقظ ونحن نقول يا فتّاح يا عليم يا رزاق يا كريم، فإذا بنا نجد قرارًا برفع سعر سلعة أو خدمة؟!
لما ترتفع الأسعار بسرعة الصاروخ وتزيد الرواتب ببطء السلحفاة؟! ولماذا تأتي الزيادة فجأة دون تمهيد يجعلنا نحسب الحسابات.. أو تدريج يحمينا من هول المفاجأة.. أو تدقيق إذا كانت دخولنا تسمح بالزيادة أم لا؟! لماذا تأتي بمبالغ تفوق قدرتنا على التوقع أو التأقلم؟
ونحن في انتظار أن يخرج علينا أحدهم ليقول لنا أنتم عارفين الدولار يجيب كام أنبوبة بوتاجاز؟! أو آخر يحملنا نحن مسؤولية ارتفاع الأسعار بإسرافنا وبذخنا في الشراء، وهو يجهل قدراتنا المالية ومستوى دخولنا.. أو ثالث يعطينا درسًا في قدرة الاحتمال والصبر عندما كان يذهب إلى المدرسة ماشيًا لمسافات طويلة، وأن العباقر مثل الدكتور طه حسين كانوا يذاكرون دروسهم على لمبة جاز وفاته أن العميد كان كفيفًا.
لقد بح صوت أنين كواهلنا التي لم تعد قادرة على ثقل الحمل من أعباء حياتية ومتطلبات يومية لنا ولأولادنا، والتي أصبحنا لا نستطع الوفاء بها والغريب أننا وحدنا الذين نسمعه.