خُلقوا لزمان غير زماننا (2)
هل يدرك الآباء حقيقة كثيرًا ما تغيب عنا؛ وهى أن أبناءهم إنما خلقوا لزمان غير زمانهم، وهل يفهم الأبناء أن لآبائهم وأمهاتهم حقوقًا لن تستقيم حياتهم إلا بأدائها طواعية وكاملة غير منقوصة.. هذه حقائق ينبغي ألا تغيب عن كل الأجيال مهما تتبدل الأزمان وتتغير الأفكار والقناعات!
للآباء والأمهات منزلةٌ لا يعادلها منزلة؛ فهم فوق كل منزلة؛ بدليل أن الله تعالى قرن عبادته بالإحسان إليهما فقال تعالى: “وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا”.
أما اﻷب فهو عماد الأسرة ورمز الأمان والحماية.. يكدّ ويتعب حتى يوفر لأبنائه متطلبات الحياة!
وهنا يحضرني سؤال طُرح على مجموعة من طلاب الماجستير بإحدى الجامعات.. ما هو الأب؟
اﻷجوبة اختلفت إﻻ جوابًا واحدًا استوقف المحاضر وأدمع عينيه..
يقول صاحب هذا الردِّ: اﻷب في صغرك تلبس حذاءه فتتعثر من كبر حذائه وصغر قدمك.. تلبس نظارته فتشعر بالعظمة.. تلبس قميصه فتشعر بالوقار والهيبة.. يخطر ببالك شيءٌ تافهٌ فتطلبه منه.. فيتقبل منك ذلك بكل سرور ويحضره إليك دون مِنَّة.. يعود الى المنزل فيضمك إلى صدره ضاحكا وأنت ﻻ تدري كيف قضى يومه.. وكم عانى في عمله.
واليوم حين كبرت.. فأنت ﻻ تلبس حذاء أبيك؛ فذوقه قديم لا يروق لك.. كما لا تروق لك ملابسه العتيقة وأغراضه القديمة! كلامه أصبح ﻻ يلائمك.. وسؤاله عنك تراه تدخلًا في شئونك وذلك أيضًا ﻻ يروق لك. حركاته يشعرك بالحرج.. وكلامه قد يصيبك بالاشمئزاز!
إذا تأخرت قلق عليك ثم عاتبك على التأخير حين عودتك للمنزل لكنك بدلًا من أن تمتن لخوفه عليه، تشعر بالضيق وتتمنى لو لم يكن موجودًا لتكون أكثر حرية.. رغم أنه لا يريد سوى الاطمئنان عليك.
ترفع صوتك في حضرته وتضايقه بردودك وكلامك.. فيسكت ليس خوفا منك، بل حبًا فيك وتسامحا معك!
إن مشى بقربك محدودب الظهر.. ﻻ تمسك يده فلقد أصبحت أنت أطول منه! أنت باﻷمس كنت تتلعثم بالكلام، وتخطئ في الحروف فيضحك مبتسمًا ويتقبل ذلك برحابة صدر.. واليوم أنت تتضايق من كثرة تساؤﻻته واستفساراته بعد أن أصابه الصمم أو العمى لكبر سنه!
أبوك لا يتمنى لك الموت أبدًا ﻻ في صغرك وﻻ في كبرك.. لا في عنادك ولا في جحودك.. وأنت تتمنى له الموت.. فلقد ضايقك في شيخوخته وقد يضايق من معك أيضًا! أبوك تحملك في طفولتك.. في جهلك.. في سفهك.. في مرضك.. في دراستك.. في عوزك.. في فاقتك.. في شدتك.. في رخائك.. تحملك في كل شيء، فهل فكرت يومًا أن تتحمله في شيخوخته ومرضه وضعفه واحتياجه إليك.
أحسن إلى أبيك تجد ذلك في إبنك.. إغتنم كل لحظة في حياته فغيرك يتمنى أن يدفع من عمره حتى يراه يومًا أو بعض يوم!
انتهت إجابة الطالب البار بأبيه.. ويبقى أن للأب فضلًا لا يعدله فضل؛ ويكفي ما قاله رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: "لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه"، يقول النووي في شرحه للحديث: "أي لا يكافئه بإحسانه وقضاء حقه إلا أن يعتقه".
ما زلتُ أذكر ما كانت أمي تقوله لنا دائمًا: اضحكوا في وجه أبيكم عندما يعود إلى البيت، فالعالمُ في الخارج مكانٌ موحشٌ يحطم الآباء مثل الأواني الفخارية، وكنا نقف عند الباب ننتظره بابتسامتنا التي تشبه القوارب الصغيرة..
رحم الله أبي وأمي جزاء ما قدماه لي ولإخوتي من تضحيات وتفانٍ لا أستطيع أن أوفيهما حقهما.. ويبقى السؤال: هل تدرك الأجيال الجديدة؛ أبناء السوشيال ميديا والإنترنت أنه لا بركة في حياة لا يملؤها رضا الوالدين ودعائهما لأبنائهما الذين هم أحوج ما يكون لمثل هذا الرضا.. ومثل هذا الدعاء؟!