هؤلاء علّموني (2)
في حياتي محطات مهمة لا أنساها؛ فقد تخرجت في كلية إعلام القاهرة عام 1976 وكانت الوحيدة أيامها في هذا التخصص على مستوى الجمهورية، قبل أن يجري إنشاء أقسام للصحافة بكليات الآداب في شتى ربوع مصر، وهو ما أعتبره عملًا تخريبيًا أضعف المهنة وأضاع فرص العمل على خريجي الإعلام الحقيقيين حتى باتوا يرزحون تحت خط البطالة.
وبعد تخرجي في الجامعة تدربت بجريدة الأخبار ثم إنتقلت مع الكاتب الصحفي الكبير الراحل محسن محمد للعمل بجريدة الجمهورية، الذي تولى رئاسة تحريرها بقرار من الرئيس السادات، الذي إختاره لضرب الشيوعيين في تلك الجريدة، ثم جمع بين منصب رئيس التحرير ورئيس مجلس إدارة دار التحرير (الجمهورية)..
وكان رحمه الله يرفض الواسطة، وقد تعلمت على يديه فنون الصحافة وأصولها ومبادئها، وكيف تكون المهنية وعدم الفبركة.. وأشهد أنه أدخل لجريدة الجمهورية مجموعة كبيرة من الشباب إستطاع بهم إحداث نقلة نوعية كبيرة إرتفعت بتوزيعها تدريجيًا من 70 ألف نسخة إلى 450ألف في النصف الأول من عام 1984..
ثم وصلت إلى 850 ألف نسخة على يد الكاتب الصحفي الكبير محفوظ الأنصاري، الذي نجح في إستثمار جهود ونجاحات محسن محمد الذي أدرك (أقصد محسن محمد) أن الأخبار والأهرام تهتمان بأخبار السياسة فاتجه لأخبار المجتمع، وإبتكر أبوابًا جديدة..
مثل سوق المال، وفي خدمتك، وأفرد مساحات في الصفحة الأولى للعاملين في المهن المهمشة مثل عمال النظافة والصرف الصحي وغيرها.. ونشر صورهم في صدر صفحات الجمهورية التي كانت مدرسة للحياة تعلمت فيها الكثير من أساتذة افاضل..
ولا ننسى أن من بين كتابها توفيق الحكيم والدكتور طه حسين والدكتور محمد مندور والدكتور لويس عوض وخالد محمد خالد وكامل زهيري وغيرهم.
والحق أنني التحقت أنا وعشرات الشباب خريجي الإعلام بالعمل في صحيفة الجمهورية دون واسطة فقد كانت الكفاءة معيار اختيارنا للعبور إلى بلاط صاحبة الجلالة.
ما أذكره وأعتز به أن جيلنا عرف تناقل الخبرات بين الأجيال، وتعلمنا ممن سبقونا ولم يبخلوا علينا بخبرتهم ونصحهم ولعلى أفخر بأنني إبن من أبناء جريدة الجمهورية التي احتضنتني ومنحتني فرصة العمل وتحقيق الذات، ولم تبخل على بشيء، حيث عينت فيها فور تخرجي وترقيت من مندوب صحفي في وزارات عديدة إلى رئيس قسم الأخبار في عهد محفوظ الأنصاري..
ثم نائبًا لرئيس التحرير ثم نائبًا أول لرئيس التحرير في عهد الكاتب الصحفي الكبير سمير رجب، ثم اختارني بعد ذلك صفوت الشريف شخصيًا رئيسًا لتحرير كتاب الجمهورية وعضوًا بمجلس الإدارة بالتعيين، بعد أن كنت عضوًا منتخبًا لسنوات طويلة، ثم اختارني مجلس الشوري رئيسًا لمجلس إدارة دار التحرير (الجمهورية) في عام 2009 حتى قامت ثورة يناير فتقدمت باستقالتي طواعية في فبراير 2011..
ولم يوافقني في ذلك إلا زميلي الكاتب الكبير عبدالقادر شهيب رئيس مجلس إدارة دار الهلال وقتها، وهو ما رفضته بقية القيادات الصحفية وأصرت على البقاء في مواقعها، حتى جرت إقالتهم جميعًا بعدها بشهرين اثنين..
ولو عاد بي الزمن فسوف أتخذ قرار الاستقالة؛ فمصر وقتها كانت في حالة فوضى.. وكان الجميع يطالب بتنحية القيادات الصحفية والإعلامية التي عملت مع مبارك، وكان لابد من دفع دماء جديدة في شرايين الصحافة والإعلام بأفكار مختلفة وليس كما فعل بالتلون مع كل الأنظمة.
ترى هل لو عاد الزمن بهؤلاء أكانوا يصرون على مواقفهم أم يوافقونني فيما دعوتهم إليه؟ وهل استفادت الصحافة شيئًا من تأبيد القيادات الصحفية على كراسيها؟ والسؤال بصيغة أخرى: ماذا خسرت الصحافة ببقاء تلك القيادات في مقاعدها كل تلك السنين؟ هل كانوا سببًا في شيخوخة المهنة وما وصلت إليه من ضعف وترهل؟! ولهذا حديث آخر.