رئيس التحرير
عصام كامل

النوستالجيا.. دليلك الشامل إلى الجحيم

النوستالجيا... كلمة تبدو بريئة، ولها وقع حنين جميل. لكن، خلينا نكون واقعيين شوية: الموضوع أكبر من كده بكتير، الموضوع فيه كآبة مقنَّعة تحت غطاء النوستالجيا. اللي بيفتكر الماضي وبيحِن له، مش بيحِن للأيام نفسها، لكنه غالبا بيحِن لنفسه وهو أصغر، لما كان شايف الدنيا بشكل مختلف.

يعني باختصار، النوستالجيا هي رحلة للهروب من الحاضر إلى البدايات، مكان كل حاجة فيه كانت بسيطة ومفهومة، واللي كان يطفي النور بس علشان ينام مش علشان يداري فشل أو إحباط.

اللي عايشين في النوستالجيا، بيهربوا من حاضرهم اللي مش قادرين يواجهوه. تخيل كده، هو عايش في أيام أبيض وأسود، بيحس إنه كان بطل الفيلم زمان، حتى لو كان كومبارس. زمان كانت الدنيا أمان، حتى لو الحقيقة كانت غير كده. 

زمان كان مفيش مسؤوليات، مفيش ضغوط، كل حاجة سهلة، عيشة هنيَّة، ومفيش حاجة اسمها "دفعت الإيجار ولا لسه؟ مصاريف المدرسة عملت فيها إيه؟ قسط القرض، بنزين العربية أو حتى أجرة المواصلات، الشغل المتلتل الي وراك، مشاكلك الاجتماعية والزوجية، الواد اللي عيان، مشاوير المصالح الحكومية اليل مبتخلصش.. وحاجات كتيرة ياما لو ناوي تحبني".

طبعًا مش محتاج أقولك إن اللي بيهرب للماضي عنده حاضر كئيب، وحاسس إن المستقبل عبارة عن حفرة عميقة جدا ضلمة، مش عارف هو ماشي رايح فين ولا إزاي. بس اللي متأكد منه إن الحاضر بائس، فبيقف قدام المراية كل يوم ويسأل: "هو دا اللي كنت عايز أوصل له؟" والمستقبل؟ أكيد فيلم رعب بميزانية محدودة، لوو بادجيت بلغة ولاد الكار.

 

الناس بيهربوا للماضي عشان وقتها مكانش فيه مشكلة ما تحلهاش قعدة على القهوة أو ماتش كورة شراب في الشارع. دلوقتي بيواجهوا دُيُون، قروض، مسؤوليات، اجتماعات، وبطلنا حتى نشوف بعض إلا في زحمة إنستجرام وفيسبوك. يبقى أسهل يفتح ألبوم صور قديم، يسمع شريط كاسيت سافف أكل الدهر عليه وشرب، ويتحسر على الأيام "اللي كان فيها كل حاجة بسيطة".

 

عايزين نعترف إن النوستالجيا دراما نفسية للهروب، والحقيقة إن اللي عايش في الماضي خايف يواجه الواقع، خايف من بكرة اللي بيجيله في أحلامه كل ليلة زي وحش مرعب مستني في الركن البعيد الهادي. خايف من التغييرات اللي حاصلة حواليه، اللي مش فاهمها، اللي بتزيد كل يوم والتاني وبتاخده لحتة أبعد وأبعد من اللي كان يتمنى يوصلها.

 

 

وفي الآخر يا عزيزي، النوستالجيا ما هي إلا جرس إنذار بيقولك: "افتح عينك، شوف انت واقف فين، وبطل تهرب من الواقع".. الماضي جميل بس مش هيرجع، والحاضر مؤلم بس هو ده اللي موجود، والمستقبل مهما كان غامض ومخيف، لازم نواجهه بعيون مفتوحة مش بنظرة حزينة على صورة قديمة.

الجريدة الرسمية