صعب أن يتكرر!
هل يمكن أن يتكرر أنيس منصور في الصحافة والثقافة والفكر والفلسفة.. هل يمكن أن ينتج هذا العصر مثقفًا موسوعيًا بحجم العقاد أو طه حسين أو حتى أحمد زويل؟!
أقول هذا الكلام بمناسبة مئوية الكاتب الصحفي والأديب والفيلسوف المصري الكبير أنيس منصور الذي عبرت ذكرى مولده منذ أيام..
حيث ولد مفكرنا وكاتبنا الكبير في 18 أغسطس 1924، وهو كما يحلو للبعض أن يسميه سندباد العصر؛ نظرًا لكثرة أسفاره وما كتب في أدب الرحلات الذي يعد أحد رواده، وله فيه كتب عديدة منها حول العالم فى 200 يوم، واليمن ذلك المجهول، وأنت في اليابان وبلاد أخرى، فضلا على عدد من كتبه الغرائبية، والتي تحدثت عن عوالم الأشباح، وأسرار الكون.
كتاب 200 يوم حول العالم حين صدر قوبل بحفاوة كبيرة في أوساط المثقفين والمفكرين وفيهم عميد الأدب العربي الدكتورطه حسين، حتى أن المشير عبدالحكيم عامر تساءل: لماذا لا يتم تدريس هذا الكتاب لطلاب المدارس مقابل مبلغ مبالي كبير لمؤلفه أنيس منصور..
لكن الأخير رفض ذلك قائلًا:" إنني أفضل أن يختارني القارئ على أن أكون مفروضًا عليه؛ أن أكون متعة وراحة له على أن أكون واجبًا مفروضًا عليه".
أنيس منصور ظاهرة متفردة في تاريخنا الأدبي والصحفي المعاصر؛ فهو كاتب موسوعي يفكر بعقل الفيلسوف ويكتب بقلم الصحفي الواعي بنبض الحروف ودلالات الألفاظ وأذواق القراء وميولهم، صاحب مدرسة السهل الممتنع؛ ولا يزال رغم رحيله من أشهر كتاب الأعمدة في الصحافة العربية والعالمية..
وحين كنت أقرأ مقاله اليومي "مواقف" في الزميلة الأهرام كنت لا أترك الجريدة حتى أفرغ منه، حيث كان مصدر شغف ومتعة ومعرفة بلا حدود يؤسرك ويخطف اهتمامك من اللحظة الأولى.
كان أنيس منصور من أنصار تخفيف المقال؛ فالقارئ في زمانه لا يكاد يطيق صبرًا على قراءة المطولات من المقالات، وكان محقًا في زمانه فما بالك بقراء زماننا الذين لا يبرحون هواتفهم ولا يطيقون البعد لحظة عن مواقع التواصل الاجتماعي، ولا يقرأ أكثرهم إلا العناوين في المواقع والصحف..
وليت كتاب هذه الأيام يدركون تلك الحقيقة ويعيدون قراءة ما كتبه الراحل العظيم أنيس منصور.. صدقوني سوف تتغير أشياء كثيرة.. وسوف يكسبون قراءً جددًا بلا ريب.
أنيس منصور كان من أكثر، وربما هو أكثر مؤلفي اللغة العربية قبولًا عند ملايين القراء، ولا عجب أن يصفه عميد الأدب العربي طه حسين بما لم يصف به مؤلفًا من قبل في قدرته الفائقة على تطويع اللغة التي يشكلها كيف يشاء في خفة ورشاقة وأناقة وجاذبية لا حدود لها.
اشتهر أنيس بالكتابة الفلسفية المعمقة في مجموعة كبيرة من أعماله، ولم لا وهو أستاذ الفلسفة الذي شُغف بالمسائل الكلية والحقائق الكبرى للكون والحياة، وهو درسٌ بليغ لمن لا يرى أهمية لتدريس الفلسفة والمنطق وعلوم النفس في مدارسنا وجامعاتنا.. فأين لنا بمبدع كبير على شاكلة أنيس منصور إن تجاهلنا الفلسفة وعلومها ونظرياتها!