رئيس التحرير
عصام كامل

جمهورية بهاء الدين!

كنت في أحد أيام الدراسة بالإسكندرية، وصممت علي الانتهاء من كتاب (أيام لها تاريخ) للكاتب الأكبر أحمد بهاء الدين في اليوم نفسه الذي أمسكت فيه بالكتاب وتفرغت له تماما.. وعند أحدى صفحات هذا الكتاب توقفت عند جمهورية زفتي. 

واحدة من صور نضال شعبنا ضد الاحتلال البريطاني، وقلت إنها تستحق أن تتحول إلي عمل تليفزيوني، ولم يمر وقت طويل حتي تحقق ذلك بالفعل.. الكتاب كله شيق للغاية لكن بدت جمهورية زفتي كأنها عمل يعنيه هو مباشرة!


لم تكن ميزة بي أن ننتهي من كتاب أو نتنبأ بعمل درامي.. الميزة الحقيقية هي في ذلك الأسلوب الساحر الذي يخطف أعين وعقول من يطالعون مفرداته وأسلوبه.. المتدفق السلس البديع.. الكاتب غزير المعرفة والثقافة.. عف اللسان فلا ينطق بما يستنفر الناس ولا بما يسئ إلي أحد!


بعدها ومنطقيا توالت القراءات للرجل الذي فقدناه لصدقه.. كان عروبيا مخلصا تسبب صدقه لأن تنفجر شرايين رأسه ساعة أن علم وهو في بيته بالقاهرة بنبأ دخول القوات العراقية إلي الكويت.. فكان ما كان من مرض أقعده لسنوات عن العمل، وعن الكتابة حتي الرحيل، رغم تحذيرات الأطباء المشددة قبلها من أي انفعال أو غضب في ظل حالة صحية ليست أصلا علي ما يرام، وسابق جلطة دموية  كانت جرس إنذار كبير لم يستمع إليه، وأحداث كانت أكبر من طاقته ومن تحمله!


في مثل هذا اليوم من العام 1996 رحل أحمد بهاء الدين.. وقد يعتبرونه ثاني أروع وأجمل قلم في بلادنا العربية بعد محمد حسنين هيكل.. وبعضهم يراه لا يقل عنه.. لكن مطالعة كتبه فاروق ملكا، وتحطمت الأسطورة عند الظهر، ثم أشهرها وأهمها علي الإطلاق محاوراتي مع السادات، الذي يعد درسا أخلاقيا قبل أن يكون درسا صحفيا في الخصومة الشريفة، وفي السرد المجرد عن أي هوي..  

 

فرغم اختلافه مع الرئيس السادات.. بل هو صاحب تعبير انفتاح السداح مداح، لكن ومع كم المعلومات في الكتاب ظل نموذجا في التناول المهذب الذي يقدر غياب الطرف الآخر، وعدم قدرته علي الرد، ومثالا للكاتب عظيم الأدب رفيع المكانة شديد الموضوعية، ووسط عشرات الوقائع لم يترك الخيال لقلمه أن يكتب ما لم يره أو يسمعه بنفسه، ولا ليدلس علي القارئ فيخلط بين الرأي والوقائع، ولم يجنح بتأويله للتفاصيل إلا إذا وضع أمامك كافة الاحتمالات الممكنة!

 


 رحم الله أستاذ الأساتذة أحمد بهاء الدين أصغر رؤساء التحرير في مصر في الخمسينيات، والمؤسس ورئيس تحرير ومجلس إدارة كبريات الصحف والمجلات المصرية والعربية.. من صباح الخير وروزاليوسف والعربي الكويتية إلي دار الهلال والأهرام.. رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.

الجريدة الرسمية