إلغاء العلوم الإنسانية تغييب للعقول؟!
أتعجب من هؤلاء الذين يدعون إلى التخلص من تدريس العلوم الإنسانية والاجتماعية في مدارسنا وجامعاتنا، صحيح أننا لسنا في حاجة للتوسع في تلك التخصصات التي لا تلائم سوق العمل لكن الترشيد شيء والتخلص منها شيء آخر تمامًا..
فهل رأيتم دولة متقدمة لا تحرص على تعليم أبنائها العلوم الإنسانية والاجتماعية المسئول الأول عن عملية بناء وعي المجتمعات؟ فكيف نطالب ببناء وعي حقيقي في مواجهة الوعي الكاذب والوهمي الذي يجعل المجتمعات بيئة خصبة للوقوع فريسة سهلة للشائعات، ومحاولات الاستهداف وتفكيك الجبهة الداخلية.. ثم نهدم أسس بناء هذا الوعي الرشيد؟!
كيف نريد أجيالًا واعية وهي لا تدري من أمرها شيئًا، فلا هي تعلمت التاريخ علم المستقبل الذي يستهدف التعلم من التجارب وتعزيز الهوية والوعي بحركة التاريخ لاستخلاص مؤشرات المستقبل؟ وكيف نطلب أجيالًا واعية بحدود بلدها وموقعها على الخريطة ثم نطلب إلغاء تدريس الجغرافيا وهي علم واسع لا غنى عنه، تقود الدارسين لمعرفة حدود بلادهم وحدود أمنهم القومي؟!
فهل يمكن أن نستغني عن علوم المنطق والفلسفة وعلم النفس واللغات وكيف نتواصل مع الدنيا من حولنا ونبنى منظومة التفكير بصورة سليمة ومنطقية؟!
إن تطوير التعليم ومواكبة العصر وسوق العمل لا يعنى بالضرورة نسف العلوم الإنسانية والاجتماعية؛ فأعرق جامعات الدنيا لا تزال تقوم بتدريس تلك العلوم ضمن برامجها الدراسية؛ فبمثل تلك المعارف تتقدم المجتمعات وتتطور، وتطورها ليس مرهونا بتطورها في العلوم الطبيعية فقط..
فقد يكون لازدهار العلوم التطبيقية انعكاس سلبي على المجتمعات الإنسانية إن لم تكن محكومة بإطار فكري سليم، وهو ما لا يمكن أن يحدث إلا بوجود تصور سليم تجاه الظواهر الإنسانية والاجتماعية التي تحيط بالإنسان، والتجارب الإنسانية تثبت خطورة نمو العلوم الطبيعية دون أن يتزامن ذلك مع نمو للعلوم الإنسانية والاجتماعية.
المقارنة بين العلوم التقنية والعلوم الإنسانية قاصرة ومجحفة وتنم عن سطحية من يقعون في مثل ذلك الخطأ، فليس هناك أي تعارض بين الاهتمام بالعلوم التقنية لغة العصر التي لا يصح أن نجعلها في المركز بينما نلقي بالعلوم الإنسانية في الهامش أو في مجاهل النسيان.
العلوم الإنسانية والاجتماعية تبني الإنسان وتبني الوعي وتفتح الأذهان على الحقائق الكلية، أما إذا أهملناها سنبقى ننتج إنسانا مشتتا ووعيا مضطربا ولنا في التاريخ دروس وعبر.. فالنهضة الأوربية التي أوصلت الغرب وبعض دول الشرق المتقدمة إلى ما هي عليه الآن هي نهضة الفنون والآداب والفكر، والتي كانت سببا في اختراق ظلمات العصور الوسطى الأوربية خروجا إلى التنوير والثورة قامت على الاهتمام بتلك العلوم.
وإذا كانت نهضة العلوم الطبيعية تمثل صحة الجسد، فإن نهضة العلوم الإنسانية تمثل سلامة الروح، وغياب الفلسفة يؤدي إلى غياب القدرة على طرح الأسئلة التي تؤسس لعملية تفكير واعية.. وحين لا نعرف كيف نطرح سؤالا فلن نصل أبدا إلى إجابة.. وأتفق مع من يقول إن وأد العلوم الإنسانية وخاصة المنطق والفلسفة قتل للعقل وتجريم للتفكير.. وتلك كارثة كبرى تطمس الوعي والفكر..
صدقوني إن إلغاء تدريس الفلسفة واللغات الأجنبية هو إصرار على بقاء العقل رهينة للرجعية والتخلف.. فهل درست وزارة التربية والتعليم القرارات الجديدة وهل طرحتها لحوار مجتمعي واعٍ أم أنها انفردت بالقرار ولم تتحسب للعواقب؟!