رئيس التحرير
عصام كامل

الذين خانوا غزة

اتفق بعض العجم وكل العرب على أن انتصار المقاومة في الأرض المحتلة خطر داهم على بعض العجم وكل العرب، إذ لم يتحرك مناصر لحق المقاومة في الدفاع عن الأرض والعرض والتاريخ إلا جنوب أفريقيا ومن انضم إليها في معركة قضائية حاسمة.

 

لم تتحرك عواصم العرب في شوارع تكتظ بأعداد غفيرة من البشر الذين يعيشون كما لو كانوا محتلين من نفس العدو الذي يحتل فلسطين منذ العام 1948م وحتى اليوم، فقط تحركت جموع بشرية في عمان، أما في بلاد العجم فإن تحركات الإنسانية قد طافت عواصم عدة.

 

في بلاد وعد بلفور اصطف أكثر من مليون ومائتي ألف في شوارع لندن وهم يهتفون ضد المذبحة والإبادة الجماعية تحركهم نوازع إنسانية صرفة لا علاقة لها بالعرق ولا بالقومية، تحركت جماهير الإنجليز كما لو كنت في عاصمة المعز عندما كانت عاصمة للمعز وللعز والإباء!

 

وفي شوارع باريس تحركت جموع بشرية لا تعرف اللغة العربية، ولكنها تعرف أن الإنسانية تتعارض مع القتل والتدمير والذبح على الهوية، وشاركتها جماهير في النرويج وفي إيطاليا وفي السويد وفي النمسا وفي كثير من عواصم العجم التي بشرت منذ البدايات بخلق الكيان العنصري البغيض على أرضنا.

 

أما في بلاد العرب فإن دواوين الحكم قد باتت تتباهى بما تقدمه لأهل غزة من بعض خبز وجبن فاض عن حاجة قصورهم، وألقوه من طائرات كما لو كانوا يلقون إلى كلاب ضالة قليلًا من الطعام يحافظ على حياتهم حتى يأتيهم الموت بصواريخ وقنابل لم تقدمها أمريكا وحدها، بل قدمها العرب.. كل العرب.

 

وإذا كانت عواصم العجم حركتها نوازع إنسانية فإن عواصم العرب أسكتتها نوازع سلطانية لا تزال تستمد شرعية وجودها من البيت الأبيض بل إن القاتل نتنياهو نبه منذ بدايات العدوان على الحكام العرب وعلى الهواء مباشرة بأن كل من يخشى على مصالحه فليصمت.. وفعلا طال صمت الجميع.

 

عشرة أشهر ولا يزال القتل الممنهج ضد الأطفال والنساء وضد الشيوخ وضد الشجر والحجر وضد كل ما هو ينتمي إلى الحياة حتى بات المشهد كما لو كان المحتل الغاشم في سباق للحصول على المركز الأول في الإبادة، ومن حوله تعلو هتافات التشجيع العربية تحت شعارات الشجب والإدانة والرفض.

 

لم تعلن عاصمة عربية واحدة خاضعة لاستقرار وهمي أنها تنتقل من مرحلة الرفض إلى مرحلة الفعل، حتى لو كان هذا الفعل مجرد إعلان القطيعة مع كيان لا تحكمه مبادئ أخلاقية أو قيم إنسانية، بل إن عواصم تسابقت على مد المحتل بما يحتاج من غذاء يزرع في أرض عربية ويروى بمياه عربية.

 

كثيرة هي صباحات الخيانة العربية على مدار تاريخ القضية، ولكنها لم تشهد ما تشهده هذه المرة، فقد كنا قديما نحوز سلاحا يقاتل في بعض العواصم ولدينا خونة في عواصم أخرى، هذه المرة غير كل مرة، فالكل هان والكل خان، والكل أمام التاريخ في سطور مخجلة عارية من كل ستر.

 

صور الأطفال المنقولة على الهواء مباشرة كأنها مدافع من نار تسري في أبداننا وفي قلوبنا، ونحن عاجزون أمام حجم البيع وحجم الخبث المتطاير من وسائل إعلامنا التي تتباهى في نقل صور السلاطين وهم يشجبون ويتباهون بما يقدمونه من علاج وخبز وقطرات ماء وكأنهم يغتسلون ويتطهرون من الدم بالعار.

 

 

سيحكي التاريخ يوما أن فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، وسيحكي التاريخ عنا نحن البشر العاديين كيف استسلمنا، وكيف سلَّمْنا، وكيف هانت علينا كل قيم الحياة، وكيف مارسنا الخيانة بالصمت، وكيف تحولنا إلى مجرد بهائم تخشى على أنفسها نقص العلف في عصر بات فيه العلف أهم كثيرًا من الشرف.

الجريدة الرسمية