فقر القلوب لا فقر الجيوب!
فرق كبير بين شبع النفوس وشبع البطون، فمن كان همه بطنه فلن يشبع أبدًا، وهو ما استعاذ منه النبي الكريم بقوله: "اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع ومن دعاء لا يسمع ومن نفس لا تشبع ومن علم لا ينفع أعوذ بك من هؤلاء الأربع"..
أما النفوس الشبعانة، فهي نفوس قنوعة لا تتطلع لما في أيدي غيرها.. وفي تراثنا قول مأثور يلخص الحكمة في شبع النفس والقلب: "لا تعاشر نفسًا شبعت بعد جوع؛ فإن الخير فيها دخيل، وعاشر نفسًا جاعت بعد شبع فإن الخير فيها أصيل".. هذا هو الفرق!.
من شبّ على شيء شاب عليه، ومن شبّ على العطاء والإحسان للآخرين، فمن الصعب أن تغيره الأيام حتى لو جارت عليه، لأنه في الأصل شبعان، لا يتكالب على الدنيا ولا يحقد على الآخرين ولا يحسدهم وإنما نفسه مطمئنة راضية بما رزقها الله تعالى، دائمًا ما يكون لسان حاله "اللهم قنّعنا بما رزقتنا".. إنها الحكمة الدفينة التي تكمن في القناعة، فالقناعة توّلّد الرضا، والرضا يولّد السكينة في القلب والنفس.
"علمت أن رزقى لن يذهب لغيري فاطمأن قلبي".. هذا هو قانون الحياة المطمئنة الراضية الخالية من الصراعات والتنافس المذموم، هذا هو قانون الراحة.
"ازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس" هذا قانون التعايش والاختلاط الآمن، لا تنظر إلى ما عند غيرك، فالله مقسم الأرزاق.. يقول الله تعالى "أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ" (الزخرف: 32).
وهنا يثور سؤال: هل كل بطن جاعت من طبعها البخل والشح والإحجام عن العطاء، والجواب.. بالقطع لا.. فالفقر هو فقر القلوب وليس فقر الجيوب؛ فكثير من الفقراء شبعانين ويحمدون الله على كل حال، وكثير من الأغنياء لم يشبعوا ولن يشبعوا ولو ملكوا الدنيا بما فيها..
فالمسألة -كما قلنا- هي القناعة والرضا بما قسمه الله لنا والشعور بالسعادة بما نملكه وعدم النظر إلى ما يملكه غيرنا.. وربما كانت تعاسة البشر في أغنيائهم وليس فقرائهم، ففي أمثالنا العامية “ما تهونش إلا على الغلبان”.. إشارة إلى أن من لا يملك المال هو أكثر من يجود بما يملكه..
ولا عجب والحال هكذا أن يقول إمام الدعاة الشيخ الشعراوي رحمه الله "ما جاع فقير إلا ببخل غنى".. فما أقسى بخل الأغنياء، وما أقسى شعور الإنسان بالاستغناء.. يقول تعالى "إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ" فليس وراء الاستغناء إلا الطغيان.. وفي شبع النفوس وفقر القلوب..
يقول عبد العزيز السلمان في كتابه "موارد الظمآن لدروس الزمان،":
تَجَنَّبْ بُيُوتَا شُبِّعَتْ بَعد جُوعِهَا... فإنَّ بَقَاءَ الجُوعِ فيها مُخَمَّرُ
وَآوِي بُيُوتًا جُوِّعَتْ بَعْدَ شِبْعِهَا... فإنَّ كَرِيمَ الأَصْلِ لاَ يَتَغَيَّرُ.
وقال آخر:
إيَّاكَ إيَّاكَ أَنَ تَرجُو امْرًأ حَسُنَتْ... أَحْوَالُهُ بَعْدَ ضُرِّ كَانَ قَاسَاهُ
فَنَفْسُهُ تبك مَا زَادَتْ ومَا نَقَصَتْ... وذلِكِ الفقرُ فَقْرٌ َما تَنَاسَاهُ.
اللهم ارزقنا القناعة والرضا.