رئيس التحرير
عصام كامل

انصراف دون استئذان

على فجأة تسرب من بين أيدينا وغادر المكان، انصرف دون استئذان وقرر أن يرحل تاركًا بيننا حوارا لم يكتمل، أغلق خلفه باب أيامه في الدنيا وصعد إلى خالقه فهو الأعلم به وبما كان يحمل من قلب يتسع لكل المختلفين معه دون حقد أو كراهية أو رفض أو تهميش.


وبينما كنت أقلب في الصباح صفحات من ذلك الوسيط الجديد الذي ينقل إلينا أخبار الفارين من الدنيا إلى العليا ويزف أحيانا أخبارا على الهواء مباشرة قرأت وأنا "أدعك عيناي" بأصابع مرتعشة خبر انتقال الرائع، المدهش الطبيب الإنسان والكاتب الصادق والسياسي الشريف محمود عزت العلايلي.


بيننا قصة لم تكتمل من حوار راق بحجم هذا الرجل النبيل الذي أشهد الله أنه لم يحمل بين جوانحه لكل المختلفين معه إلا أمنيات الهدى واللقاء على نقاش يليق بما كان يحمله بين جوانحه من بقايا إنسان لايزال يؤمن أن الحياة تتسع للجميع وأن المغادرة أقرب من حبل الوريد.


كنت واحدًا ممن حضروا حفل تدشين كتابه الأمثل "الأيام المسمومة" وبين سطوره سترى محمود عزت العلايلي منتصبا لايزال يؤمن بكل ما جرى من أحداث عاشها متمردا أحيانا ومتوافقا مع ذاته أحايين أخرى، يروى تجربة إنسانية اختلط فيها الأمل بالألم وتناغم فيها محمود الحالم مع محمود المعترض دون أن يتجاهل محمود المتأمل في تجربة مصر الوطن الذي عاش فيه شريان حلم كان يبتاعه لأبنائه وأحبابه وكل المارين على الطريق الوعر.


عكفت على الكتاب ورأيت فيه  مسيرة صدق لا يتبرأ صاحبها من عثرات الممارسة ولا يرسم لنفسه ملامح بطل أسطوري لا يخطئ وتهاتفنا معا وتناقشنا وعلا صوتى أحيانا ولم يزل صوته قادما عبر الأثير هادئا، ثريا، مؤثرا كما لو كان بيت شعر من وحي الصدق قد جاء.


وكلما تهاتفنا اتفقنا في نهاية الحوار على لقاء عبر الأثير إن لم نتمكن من لقاء في دروب كان يحبها وتحبه، غير أنه وللمرة الأولى يخلف معي وعده بلقاء يبدو أن موعده سيتأخر إلى أن يحين الحين ونتلاقى هناك خلف الجدار حيث لا تعب ولا نصب ولا صراع.


بين يوم وليلة ودون أن يترك لنا فرصة السؤال يسقط محمود من على جواد الحياة الدنيا عابرا إلى الأبد، إلى السرمد.. إلى حيث يليق به المكان والجيران، إلى مساحات من التسامح كان يؤمن بها ويسعى إليها ويدعو في كل المحافل من أجلها..عاش وفي قلبه الكبير حلم أكبر.

 


لم يودعنا بوعد اللقاء حيث لا لقاء ولم يترك لنا فرصة حضن دافئ بدفء حواره ولم يستأذن في الانصراف كما كان يفعل عند صباحات الاتصال والتواصل، ولم يقل لنا أن أفكاره التي كان يخطها على هوامش ورقية متى ستصدر في كتابه الجديد.. تركنا ومعنا بعض صفحات كتاب الموت الذي لا يطوى سيرة الطيبين.

الجريدة الرسمية