رئيس التحرير
عصام كامل

النائب العام والعمولات

يقول النائب العام «جريمة الرشوة من أهم الجرائم وأخطرها، لأنها من جرائم الإخلال بموجبات الوظيفة، ولأن من شأنها إذا انتشرت أن تذهب بثقة الناس فى الذين يمثلون السلطة العامة، ومن أجل ذلك وضع قانون العقوبات بابًا مستقلا لجريمة الرشوة الخاصة بالجنايات والجنح والمضرة بالمصلحة العامة».


وعندما سُئل النائب العام: وما رأى سيادتكم فى العمولات التى تقدم فى الصفقات التجارية وفى عمليات البيع والشراء.. هل تدخل فى حكم الرشوة؟ قال سيادته: شيء طبيعى أن العمولة تدخل فى حكم الرشوة تماما، وإذا أخذها موظف عمومى فمن واجبه أن يسلمها للدولة.. 

لأنه عندما أعطيت له العمولة أعطيت له لأنه ممثل للشركة التى ينتمى إليها والتى بدورها تابعة للدولة، وليست مقدمة له بصفته الشخصية، ولذلك الموظف الذى يحصل على عمولة أو هدايا يعاقب عليها بعقوبة الرشوة سواء بسواء.


هذا ما قاله المرحوم المستشار إبراهيم القليوبى النائب العام فى حوار لمجلة صباح الخير الصادرة بتاريخ 11 نوفمبر من العام 1976م، وقد قيل هذا الكلام وانتشر ساعتها بسبب الحديث عن فساد الموظفين العموميين وانتشار مرض الرشوة فى دواوين الحكومة.


كثيرًا ما تخطفنى الأوراق الصفراء فى أرشيف صحفى يمتد لسنوات طوال واجدًا فيه ضالتى، وربما تنطق سطوره بما لا نستطيع أن ننطق به، ربما لتكراره أو لأسباب أخرى غير منطقية وغير معروفة، وما قاله النائب العام الأسبق ليس من بنات أفكاره، ولكنه القانون يا سادة.


لم تسأله المجلة عن هؤلاء الذين يمتلكون تغيير الوقائع وضياع الحقوق وتجريم أبرياء وتبرئة مجرمين وتلفيق القضايا أو الوقائع، إذ ليس بالضرورة أن تقوم بها الأجهزة الأمنية، فكثير من الوقائع والجرائم يرتكبها أصحاب نفوذ ومسئولون كبار أكبر من هؤلاء الذين انتشروا فى المحليات وملأوا البلاد فسادا طال كل شيء.


العمولات، وما أكثرها، تعد رشوة يعاقب عليها القانون، مثلها مثل طالب المال مقابل خدمة أو مقابل تخليص مصالح، وكانت الرشوة أيام المستشار إبراهيم القليوبى تسمى «الفكة» أي أن المرتشى يطلب من الراشى مجرد فكة، وهو مفهوم يقلل من وقع الجريمة.


وانتقلت الرشوة من مرحلة «الفكة» إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، بعد أن أصبح مفهوم الفكة يتعارض تماما مع عصر المستشار القليوبى، وبدا واضحا أن الواقع المرير أفرز ما هو أبعد من خيال النائب العام الأسبق وتابعيه، وما جرى فى عصورهم وأمام أعينهم وهم ليسوا بعيدين عنه!


بحكم الوظيفة يصبح النائب العام هو الأقرب إلى وقائع صادمة ومريعة وقاسية أحيانا فى قضية سرقة المال العام، فالنائب العام هو حامى حمى الشعب، وحامى مقدرات الدولة، وصاحب الأمر فيما يظهر أمامه من وقائع وقضايا يحققها ويبت فيها ويكيفها، ومن ثم تذهب إلى منصة القاضى.


العمولات التى تحدث عنها المستشار الراحل القليوبى فى حوار منذ ثمانية وأربعين عاما تطورت أيضًا، وأخذت أشكالا متعددة بداية من “بدلة” و”حجة”، ومرورا بفيلا وقصر ونهاية بمليارات الجنيهات التى لا يردها الموظف العمومى إلى خزينة الدولة، وقديما كان اللص يسمى حرامى، أما الآن فمن إفرازات الزمن الرديء أن يقال عنه رجل شاطر أو كسيب.


والنائب العام فى تكييفه القانونى للعمولات وضع حدا فاصلا بين ما هو عام وما هو خاص منذ هذا التاريخ البعيد، واعتبر أن حصول الموظف -علا شأنه أو انخفض- على العمولة إنما حصل عليها لحال كونه يشغل موقعا فى شركة أو وزارة أو مؤسسة تابعة للدولة، وبالتالى فإن ما حصل عليه ما كان يحصل عليه لو لم يكن فى موقعه.

 


وقد جاء على مصر حين من الدهر كان للقروض سماسرة، وكان لديون مصر بيعا وشراء سماسرة، وكان لكل مجال سماسرته الذين أثروا ثراء فاحشا من مواقعهم أو اقترابا من أصحاب القرار، لدرجة أن المعلومات الاقتصادية فى بلادنا حظيت أيضًا بوجود طابور من السماسرة.. اللهم ارحم المستشار القليوبى ومن نحا نحوه إلى يوم الدين.

الجريدة الرسمية