ضحايا الحج
فى السنة العاشرة من الهجرة كانت حجة الوداع، وهو ما يوافق العام 136 ميلادية، ويقال إنه 236ميلادية، ومنذ هذا التاريخ وحتى الآن حج المسلمون حوالى 1435حجة، وكانت حجة الوداع تضم ما بين مائة ألف ومائة وخمسة وعشرين ألفا، حسب التقديرات التاريخية وفق مصادر معتبرة، ولم تشهد حجة الوداع صورا لقتلى على الأرصفة، حيث لم تكن هناك أرصفة أصلا، ولا تطور علمى مدهش فى دراسة تحركات المجموعات البشرية الكبيرة فى مسارات علمية دون تدافع أو دهس.
ومنذ هذا التاريخ ولا يزال الحج واحدة من الأمنيات التى تراود المسلم غنيا كان أو فقيرا، وسيظل طالما استمرت الحياة، والمثير أن مشكلات الحج تتزايد يوما بعد يوم، وتسند الأخطاء دوما إلى عدد من الجهات، وتقوم الدنيا ثم تقعد سريعا دون الوصول إلى حلول إنسانية وعلمية توقف نزيف الضحايا.
والحج هذا العام شابه الكثير من اللغط بعد تزايد عدد ضحاياه وشهدائه، وكان المشهد الأكثر إيلاما هو تلك الجثث الملقاة على الأرصفة وفى الشوارع دون أن تجد من يواريها الثرى بطريقة آدمية حث عليها إسلامنا الحنيف الذى أسس لقواعد إنسانية عظيمة فى الاهتمام بالجسد كأمانة ووديعة لها قدسيتها بداية من حسن التكفين وانتهاء بالدفن الشرعى لها.
ثار لغط وجدل واسع على مواقع التواصل الاجتماعى بعد بث فيديوهات عميقة الأثر وجثث الحجاج مترامية على الأرصفة ومغطاة بصحف أو بطاطين أو قطع من قماش لا تستر الأجساد المسجاة على قارعة الطريق.. كانت المشاهد صادمة ومنقولة على الهواء مباشرة.
قالوا إن شركات السياحة تورطت في الأمر، وإنها لم تراع القواعد في المناسك، وقد يكون ذلك صحيحا، ولكن ما هى علاقة شركات السياحة بترك الجثث هكذا على قارعة الطريق مع إصرار الذين بثوا فيديوهاتهم الواقعية بأنهم تواصلوا مع الإسعاف دون رد، بل قال بعضهم: كان الرد رفضا!
هناك شيء من الخطأ المركب قد حدث، فإن كانت شركات السياحة المصرية قد ارتكبت أخطاء فلماذا ارتفع عدد الضحايا من الأردن مثلا ومن ماليزيا ومن غيرهم من الدول الأخرى.. لا شك أن نظرة واقعية لما جرى تجعلنا نفكر بشكل واقعى دون تهويل أو تهوين.
الوقائع والصور المنشورة تشير إلى خطايا في التنظيم وأخطاء وقعت فيها مؤسسات تقوم على الحجيج وتستمد شرعية وجودها من هذا الموسم، وهو أمر بالغ الخطورة لابد له من وقفة مع النفس، إذ إن إسناد الأخطاء إلى شركات السياحة والركون إلى ذلك يوفر بيئة إيجابية لكل ما هو سلبى قد حدث، بل يعد تسترا على جريمة.
إن تحقيقا شفافا وإعلان النتائج على جموع المسلمين أمر بالغ الأهمية، أما محاولة نشر أخبار تدور كلها حول سلبيات شركات السياحة هو نوع من التغافل عن الحقيقة، وبالتالى تكرار ما جرى من إهمال وفوضى فى التنظيم والإشراف والإدارة.
وإذا أثبتت التحقيقات أن جهات ما تورطت فى هذا الأمر فإن الإعلان عنها يعنى أننا أمام إدارة قوية وقادرة على مواجهة أسباب الفشل، ومن ثم الوصول إلى ما هو منشود فى المواسم القادمة، وكاتب السطور عاش مأساة «سقوط الرافعة»، وقد كان موسما مخيفا ومرعبا ومريبا.
سألت واحدا من أهم خبراء الطرق وتخطيط المدن عن سبيل علمى لحل مشكلات تنظيم الحج، وكانت الإجابة مفاجئة لى عندما قال: إن هذا الأمر أبسط مما تتخيل، وهناك طرق علمية يمكن من خلالها الوصول إلى صفر مشكلات، بالعلم ودراسة حركة الحجاج وخطوط سيرهم يمكن الوصول إلى حج آمن وممتع ودون ضحايا.
ولا نظن أن اللجوء إلى العلم عيب أو عار، وهو ما يفرض علينا التفكير فى الأمر، فقد شاهدنا دولا عربية نظمت مناسبات اتسعت للملايين دون حالة وفاة واحدة، ودون تدافع ودون دهس ودون قتلى وضحايا، ولم تفعل ذلك سحرا ولا شعوذة، بالعلم يمكننا أن نحج إلى بيت الله دون ضحايا وصور وفيديوهات مرعبة تضرب قدسية المناسبة فى مقتل.