القوي
أيقونة التواضع
في يوم من الأيام، سمع أحد الولاة عن الأنبا موسى الأسود، وقرر أن يذهب إلى الأسقيط لرؤيته. ولكن عندما علم الأنبا موسى بمجيئه، هرب إلى المستنقعات لتفادي اللقاء، لأنه كان يهرب دومًا من المجد الباطل، ولا يحب أن يسمع مدح الناس له أو ثناءهم عليه وعلى حياته التي أصبح يعيشها مع الله في كل لحظات حياته، منذ اللحظة الأولى التي تغير فيها عن طبيعته الشريرة وسكنت فيه النعمة الإلهية وغيرت في قلبه الكثير.
لم يعرفه!
وأثناء رحلة الوالي، قابل شيخًا جالسًا على الطريق يبدو عليه العوز، جلبابه مقطعًا وحالته يرثى لها، وسأله عن مكان قلاية أنبا موسى، فكانت إجابة الشيخ أنه "رجل أبله"، فتركه الوالي واستكمل طريقه دون أن يعلق على إجابة الشيخ بأي شيء.
توجه الوالي إلى الكنيسة واستفسر من الآباء عن أنبا موسى وأخبرهم عن ذلك الشيخ الذي قابله في طريقه ولكنه لم يدله على طريق قلاية الأنبا موسى بل سخر منه، ووصفه لهم، فأخبروه بحقيقة الشيخ الذي قابله.
كان الشيخ الذي قابله هو أنبا موسى نفسه، الذي تواضع حتى درجة عدم التعريف بنفسه. رجع الوالي ممتلئًا بالعبرة من هذا اللقاء، فهو كوالٍ الكل يعرفه من مظهره ومن حراسته التي تتبعه في كل مكان ومن ملابسه الباهظة والملفتة للعيون..
أما القديس، فهو رغم مكانته العالية في الإسقيط تواضع لدرجة نكران نفسه أمام الوالي هربًا من المجد الباطل وحتى لا يسقط في خطية الكبرياء.
أيقونة تواضع
الأنبا موسى الأسود كان مثالًا للاتضاع والطاعة، وهما فضيلتان أساسيتان في الحياة الروحية. قال لأحد الإخوة: "لنقتن الطاعة التي تلد الاتضاع وتجلب المثابرة والصبر وتأنيب الضمير والمحبة الأخوية والرأفة، فهذه هي في الحقيقة أسلحتنا في حروبنا".
بهذه الكلمات، كان يشير إلى أهمية الطاعة في تحقيق فضائل أخرى، فبدونهم لا يستطيع الإنسان أن يقتني فضائل روحية حقيقية يعيش بها ومن خلالها في حياته اليومية مع الناس أو الروحية مع الله.
لنعش بالطاعة
وأضاف الأنبا موسى الأسود عندما كان ينصح أحد الإخوة: "فلنسلك بالطاعة الحقيقية لأنها هي التي تسبب لنا الاتضاع والقوة والفرح والمثابرة والصبر والمحبة الأخوية وتأنيب الضمير والرأفة، لأن هذه هي الطاعة الصالحة التي تتمم كل وصايا الله".
هذه الكلمات تذكّرنا بأن الطاعة ليست مجرد تصرف خارجي، بل هي حالة قلبية تؤدي إلى نمو روحي عميق، إذ عندما نحيا بها نترك ذواتنا بين يدي الفخاري الأعظم ليشكل فينا ويخرج منا أجمل ما فينا، ويخفى مجدنا الزائف ويظهر مجد الله الحقيقي على حياتنا.
حقيقة الصوم
أما عن الأصوام والصلوات، فقد قال أنبا موسى الأسود: “ما فائدة الأصوام والصلوات التي يمارسها الإنسان؟، حقيقتها إنها تجعل النفس تتضع أمام الله لأنه مكتوب”: «انظر إلى ذلي وتعبي واغفر خطاياي» (مز ٢٥: ۱۸)، لأنه إذا تذللت النفس تجد رحمة من الله".
هنا يشير إلى أن الغاية من الأصوام والصلوات هي اتضاع النفس أمام الله، فالطاعة والاتضاع هما مفتاحا الرحمة الإلهية والتي من خلالهما يجد الإنسان نعمة في عيني الله ويفيض الله عليه من نعمته.
ماذا نتعلم؟
بهذه الأقوال، نتعلم من أنبا موسى أن الحياة الروحية الحقيقية تتطلب اتضاعًا عميقًا وطاعة صادقة، وأن هذه الفضائل هي التي تقود إلى نعمة الله ورحمته وبدونهم لا يقدر الإنسان أن يصل لأي شيء، لأنهم أول خطوات طريق الحياة الروحية الصادقة والحقيقية مع الله.
فهو من خلال كلماته ومواقفه كان يعيش كما قال الرب يسوع له كل المجد: "فَلاَ يَكُونُ هكَذَا فِيكُمْ. بَلْ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ فِيكُمْ عَظِيمًا فَلْيَكُنْ لَكُمْ خَادِمً. وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ فِيكُمْ أَوَّلًا فَلْيَكُنْ لَكُمْ عَبْدًا، كَمَا أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ، وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ" (متى 20: 26-28).
فمن خلال هذه الكلمات التي قالها لنا الرب يسوع نتعلم حقيقة هامة يجب ألا تخفى عن أذهاننا وقلوبنا، وهي أن الاتضاع والخدمة هما جوهر الحياة المسيحية، وأننا بقدر ما نتواضع ونخدم الآخرين، نقترب من الله ونحظى برحمته وبركاته في حياتنا.
للمتابعة على قناة التليجرام: @paulawagih