القوي
أيقونة تسامح
ذات مساءٍ مظلم، بينما كان الأنبا موسى الأسود عائدًا إلى قلايته بعد يوم طويل من الصلاة والتأمل، فوجئ بأربعة لصوص داخلها ينهبون كل ما فيها. فوقف وتردد للحظة، ولكن سرعان ما استجمع قواه وقرر أن يتصرف بطريقة مغايرة لما قد يتوقعه اللصوص أو حتى الشيوخ في المجمع. وبلا تردد، أمسك بهم بحزم وربطهم بحبل واحد كما تُربط الحزمة من الحطب، وحملهم على كتفه القوي وكأنهم مجرد قش.
ثبات وتغير طبيعته
كانت تلك الليلة مظلمة، وكان الهواء باردًا، لكن أبانا موسى لم يشعر بشيء من ذلك. كان يسير بخطوات ثابتة نحو مجمع الشيوخ، يحمل اللصوص الأربعة كما لو كانوا لا شيء. عند وصوله إلى المجمع، وجد الشيوخ مجتمعين في صمت وتأمل.
قطع القديس هذا الصمت بصوته العميق: "طالما أنني لا أريد أن أؤذي أحدًا، فماذا تريدونني أن أفعل بهؤلاء الذين سرقوا قلايتي؟"، وكان هذا السؤال مدهش وغريب بالنسبة للطبيعة التي عرفوا بها الأب موسى، وغريبة بالنسبة للصوص كونه قوي واستطاع أن يمسكهم بمفرده ويربطهم بحبل دون أن يساعدهم أحد!
نعمة الله الظاهرة
وبالفعل وقتها الذهول اعتلى وجوه الشيوخ، فقد كانوا يعلمون من هو موسى قبل أن يصبح راهبًا، وكانت قوته الجسدية وشجاعته لا تُضاهى.. سأل اللصوص الرهبان عن موسى وعلموا أنه كان زعيمهم السابق في عالم الجريمة.
ولكن حينها ارتعبوا اللصوص وسجدوا معترفين بخطاياهم، قائلين: "إن كان هذا القوي العنيف يخاف الله الآن، فلماذا لا نطرح نحن عن خلاص نفوسنا؟"، وهذا هو فعل النعمة في حياة القديس الأنبا موسى الأسود الذي صار أيقونة في التوبة والتغيير وصارت حياته حتى وهو كان مازال عائشًا بين الرهبان منارة ونور يهدي الحائرين والبعيدين للخلاص الذي يريده الله لكل إنسان في العالم.
زيارة ودرس
ومرت الأيام، وتوافد الزوار من مصر لرؤية القديس موسى الأسود، الذي أصبح حديث الناس بسبب تغييره الجذري. وفي أحد الأيام، عندما كان يستضيف بعض الزائرين، رأوا على مائدته ثعبانًا مشويًا. كانت المفاجأة تعلو وجوههم..
وعندما حان وقت الغذاء قال لهم الأنبا موسى: "لا تقربوا هذا يا إخوتي، فإنه وحش شرير." لم يفهموا السبب فسألوه: "لماذا فعلت هذا يا أبانا؟" أجابهم بابتسامة هادئة: "يا إخوتي، إن هذه النفس المسكينة اشتهت سمكًا، ففعلت هذا لكي أكسر شهوتها الرديئة." تعجب الزوار وشكروا الله على هذه النعمة التي منحها لقديسه العظيم الأنبا موسى.
درس مفيد
وذات يوم، أخطأ أحد الرهبان في الأسقيط، فقرر الشيوخ عقد مجمع للنظر في أمره. دعوا الأنبا موسى للمشاركة في هذا المجمع، لكنه رفض. جاء إليه الكاهن وقال له: "تعال، الجميع ينتظرونك." لم يجب القديس، بل قام وأخذ كيسًا مثقوبًا وملأه بالرمل وحمله على ظهره.
دخل به إلى المجمع، وعندما رأوه تعجبوا وسألوه: "ما هذا يا أبانا؟" أجابهم: "هذه خطاياي تجري وراء ظهري دون أن أبصرها، وقد جئت اليوم لأدين خطايا غيري!" عندها، فهم الجميع المعنى العميق وراء تصرفه وغفروا للأخ الذي أخطأ.
وفي إحدى المرات، جاء أخ إلى القديس موسى الأسود وسأله: "يوجد هنا إنسان يضرب خادمه بسبب خطأ ارتكبه، فماذا يفعل الخادم؟" أجاب موسى: "إذا كان الخادم صالحًا، فعليه أن يقول: اغفر لي، لقد أخطأت." استغرب الأخ وسأله: "ولا شيء غير هذا؟" أجاب الأنبا موسى: "لا شيء، لأنه من اللحظة التي يُحمل فيها نفسه مسؤولية الخطأ ويقول 'أخطأت'، يرحمه الرب.
الهدف من ذلك هو عدم دينونة الآخرين، وهذا هو كمال الفضائل. لأنه عندما قتل الرب أبكار أرض مصر، لم يوجد بيت واحد خاليًا من ميت." تساءل الأخ عن معنى هذا الكلام، فأجابه موسى: "إذا كنا متيقظين لرؤية خطايانا، فلن نرى خطايا الآخرين.
كما أنه من الحماقة أن يترك الإنسان الميت في بيته ويذهب ليبكي على ميت جاره. فانظر إلى خطاياك ولا تهتم بأخطاء الآخرين، ولا تشي بأحد، ولا تفكر بسوء عن أحد، ولا تصحب الذين يثلبون سمعة الآخرين، ولا تسمع كلام وقيعة على أي إنسان."
وهكذا، عاش الأنبا موسى الأسود حياة مليئة بالتجارب والدروس، مرشدًا الآخرين بوعظه وحكمته العميقة، وساهم في تغيير حياة الكثيرين بقوة إيمانه وعزمه الذي لا يلين وبفضل النعمة الإلهية التي عندما سكنت في قلبه استطاعت أن تغير في طبيعته وطريقة حياته، وصار القديس العظيم الذي نتعلم من كل فضائله.
للمتابعة على قناة التليجرام: @paulawagih