رئيس التحرير
عصام كامل

القوي

دروس وفضائل

في أعماق الصحراء القاحلة، حيث لا صوت إلا همس الرياح، كان القديس موسى الأسود يقف، صامتًا، مستغرقًا في تأملاته الروحية. تلك الصحراء لم تكن مجرد مكان للتنسك، بل كانت مسرحًا للمعارك الروحية التي خاضها ضد قوى الشر.

عش كالميت!

وفي ذات يوم وهو يقضي لحظات تأمله ويصلي ويتعبد كعادته، اقترب منه أحد الإخوة، تبدو على وجهه علامات القلق والحيرة. وسأل الأخ القديس موسى الأسود: "يا أبي، أشعر بأن هناك شيئًا مهمًا أراه أمامي، لكني لا أستطيع أن أمسكه أو أفهمه."

بهدوء العارف والذي جرب كل تلك الأمور مسبقًا، أجابه القديس موسى الأسود: "يا ابني، إن لم تصر ميتًا كما الأموات في القبور، فلن تتمكن من الإمساك بهذا الشيء. إن الفكر هو الذي يقودنا، وإن لم نميته، فلن نستطيع أن نفهم الحقائق الروحية".

 

هذا الفكر الذي يتحدث عنه القديس موسى، هو الفكر المشوش الذي يشتت انتباه الإنسان عن التأمل في الله ومعرفته. إنه الفكر الذي يجعلنا نتعلق بالأمور الدنيوية، فلا نستطيع أن نمسك بالحقيقة الإلهية وندخل في علاقة حقيقية وعشرة نقية مع الله عندما نغرق في التفكير في كل شيء وننسى أصل الأشياء أو الهدف الحقيقي والرئيسي لنا.

حروب مع شياطين

ولأن الصحراء تعتبر ساحة كبيرة للتجارب والحروب مع الشيطان، كان الشياطين يظهرون كثيرًا للقديس موسى، محاولين تحطيم إيمانه وإسقاطه في اليأس. لكن القديس، بروحه المتواضعة، كان يرتفع فوق هذه المحاولات. كان يقول لهم: "إنكم تحاولون تحقيري، لكنني أرتفع بإيماني بالله، وعندما تحاولون رفع شأني، أتضع في عيني نفسي."

درس لمبتدئ

ويحكى أنه في يوم من الأيام، جاء إليه أحد الإخوة، طالبًا نصيحته بشأن الذهاب إلى الحصاد. سأله القديس موسى الأسود: "إن قلت لك ماذا تفعل، هل ستلتزم بما أقول؟" أجاب الأخ: "نعم، سأفعل." فقال له القديس: "إذًا، اعتذر عن الذهاب إلى الحصاد، وتعال إليَّ."

 

اتباعًا لنصيحة القديس موسى الأسود، ذهب الأخ واستأذن من رفاقه وعاد إلى القديس موسى. أوصاه القديس بأن يقضي فترة خمسين يومًا في صوم وصلاة، وأن يأكل خبزًا يابسًا وملحًا مرة واحدة في اليوم. بعد أن نفذ الأخ هذه التعليمات، رأى القديس أنه جاد في تقواه، فعلمه الطريقة الصحيحة للحياة في القلاية.

 

مرت الأيام، وكان الأخ مستمرًا في صلاته وصومه، مواجهًا الأفكار التي كانت تقول له: "أنت الآن رجل عظيم." لكنه كان يقاومها بتذكر ضعفه وعثراته السابقة، قائلًا لنفسه: "هكذا كانت عثراتك." وكان يرد على الأفكار التي تحاول إذلاله بقوله: "ومع ذلك، أنا أقدم خدماتي القليلة لله."

 

عندما لم تستطع الشياطين التغلب على تواضع ذلك الاخ، ظهرت له في هيئة مخلوقات جسدانية، قائلة: "لقد هزمتنا." فأجابها القديس: "لماذا؟" قالوا له: "لأنك عندما نحاول تحقيرك ترتفع، وعندما نحاول رفعك تتضع."

السقوط لا يعرف سن!

وفي الأسقيط أو في البرية كلها، لا تنتهي التجارب بالشيخوخة أو كبر السن، فكان هناك شيخ أصيب بمرض شديد، قرر الذهاب إلى مصر للعلاج -والمقصود هنا هي القاهرة في وقتنا الحالي- رغم نصيحة القديس موسى بعدم الذهاب. وهناك، وقع في الخطيئة مع ممرضة شابة، وحملت منه. 

عندما علم رهبان الدير بما حدث، صلوا من أجله بحرارة. شعر الشيخ بالندم، وقرر العودة مع ابنه إلى الدير في يوم عيد، حيث اعترف بخطيئته أمام جميع الرهبان.

 

قال القديس موسى: "يا أحبائي، طالما هناك وقت للرجوع، فلنسرع بالتوبة والعودة إلى المسيح. لا تدعوا الأبواب تُغلق أمامكم، بل اسرعوا نحو الخلاص. المسيح ينتظركم بأذرع مفتوحة، وهو يهوى خلاص جميع الناس."

 

 

ومن خلال تلك المواقف التي تجسد حياة القديس العظيم الأنبا موسى الأسود نرى كيف أن التواضع والصلاة والتوبة هي المفاتيح التي تساعدنا على التغلب على التجارب والصعوبات الروحية، وكيف أن القديس موسى الأسود كان مثالًا للثبات والصبر في وجه الشدائد.
للمتابعة على قناة التليجرام: @paulawagih

الجريدة الرسمية