رئيس التحرير
عصام كامل

القوي

من الظلام للنور

إذ قررنا أن نتأمل قصة القديس العظيم والشهيد وصاحب أعلى أرقام في الجهاد والتوبة، القوي الأنبا موسى الأسود، فسنقف أمام شخصية فريدة ومختلفة في كل شيء.

ففي بداية القصة، نلتقي بموسى الأسود، الشاب القوي ذي البشرة الداكنة، الذي كان خادمًا لأحد ذوي المكانة والقدر حين ذاك، وكان موسى معروفًا بسلوكه السيء، فارتكب العديد من السرقات والأفعال الشنيعة، مما أثار غضب سيده وطرده من خدمته.

وكانت تلك اللحظة هي نقطة التحول الأولى في حياة موسى، حيث لم يجد له مأوى أو طريقًا سوى الانغماس في عالم الجريمة.

زعيم العصابة

بعد طرده، لم يجد موسى طريقًا آخر سوى الانضمام إلى عصابة من اللصوص، وسرعان ما أثبت نفسه كزعيم لتلك العصابة بفضل قوته وجرأته، فلقد كان موسى لا يعرف الرحمة ولا يعرف التراجع، وكان يقود زملاءه في السطو على القوافل المارة والقتل بدم بارد.

جريمة النهر

من بين العديد من القصص التي تُروى عن شرور موسى، تبرز قصة غضبه على راعي الغنم. في إحدى الليالي، وقف راعي غنم بين موسى وقطيعه، ولم يكن الراعي يعلم أن موسى يراقبه ويريد أن يأخذ من خرافه، ولقد علم موسى أن الراعي وحظيرته على الجانب الآخر نهر النيل، والذي كان في أعلى مستوياته خلال فيضانه، لكن لم يكن النهر ليعيق موسى، فوضع سيفه بين أسنانه وعباءته على رأسه، وعبر النهر عائمًا لمسافة ميل كامل.

 

وصل موسى إلى الضفة الأخرى، حيث اختفى الراعي بين المراعي، لكن موسى لم يتوقف، بل اختار أربعة كباش من القطيع، ذبحها وربطها بحبل واحد، ثم عاد بها عائمًا عبر النهر، وبعد أن عاد إلى اليابسة، سلخ جلد الكباش وأكل أفضل أجزاء لحمها، ثم باع الجلود ليشتري خمرًا وشرب منها حتى الثمالة. واستفاق موسى في اليوم التالي ليجد نفسه على بعد خمسين ميلًا من مكان عصابته، متأخرًا عن وعيه في وقت متأخر من اليوم.

توبة مفاجئة

لم يكن أحد يتوقع أن موسى، الذي قتل ما يقرب من مائة نفس، قد يأتي يومًا ويسعى للتوبة، فلقد كانت حياته مليئة بالسلب والنهب، وكان زملاؤه يعتبرونه زعيمًا بلا منازع بفضل وقاحته وجرأته. 
 

ولم يكن موسى يعرف الإله، بل كان يعبد الشمس التي تنير النهار والقمر والنجوم التي تضيء الليل. كان يرى في هذه الظواهر الطبيعية قوة خارقة، لكنها لم تشبع روحه التائهة.

البحث عن الحقيقة

سمع موسى يومًا عن رهبان برية شيهيت وطهارتهم، وتطلع إلى الشمس التي كان يعبدها وقال: "أيتها الشمس، إن كنت أنت الإله فعرفيني". كان يبحث عن إجابة تريح قلبه المليء بالظلام. لكن حينها قرر موسى التوجه إلى برية شيهيت، حاملًا سيفه ليكتشف الحقيقة بنفسه.

وفي كتاب فردوس الأباء عندما نريد أن نتأمل لقاءه الأول في البرية نجد أنه عندما وصل إلى هناك، كان أول من قابله هو القديس إيسيذورس القس، قس برية شيهيت. ذُهل القديس من منظر موسى المرعب وسأله: "ماذا تريد يا أخي هنا؟". أجاب موسى: "سمعت أنك عبد الله الصالح، لذلك هربت وأتيت إليك لكي يخلصني الإله الذي خلصك". لم يكن لدى موسى سوى رغبة واحدة: أن يجد الخلاص، رغم خطاياه وشروره العديدة.

حوار مع الإيمان

سأله الشيخ: "من هو الذي جاء بك إلى هذا الموضع؟". أجاب موسى: "أخبرني أحد المزارعين عن قداستك وقال لي: امض إلى أنبا إيسيذورس فهو يساعدك على خلاص نفسك، فقمت وأتيت، وها أنا ذا أمامك طالبًا منك أن ترشدني إلى خلاص نفسي فلا تردني، ولكن أخبرني وعرفني عن الله".

 

تابع القديس إيسيذورس سؤاله: "وماذا كان معبودك في العالم إذن؟". أجاب موسى: "إنني لست أعرف الله، بل كنت ضائعًا في شروري، وحالما تأثرت من سماعي عن رهبان الأسقيط تحركت لعبادة إلهي، لم أكن أعرف سوى الشمس إلها، لأنني لما تطلعت إليها وجدت أنها هي التي تنير المسكونة بضيائها والظلام يحل بغيابها، وكذلك القمر والنجوم التي فيها أسرار عجيبة، وكذلك البحر وقوته! 

 

ولكن كل هذه لم تشبع نفسي وعرفت أن هناك إلها آخر! لا أعرفه أعظم من كل هذه، وقلت له: أيها الرب الإله الساكن في السماء مهدي الخليقة كلها، اهدني إليك الآن وعرفني ما يرضيك. ولما سمعت أن رهبان شيهيت يعرفون الله أتيت إليك لتخبرني وتسأل الله عني حتى لا يغضب علي لأجل شر أعمالي ولا يُهلكني لأجل قبائحي غير المعدودة". وقال هذا وهو يبكي بكاء كثيرًا.

الخلاص والتحول

بهذه الكلمات البسيطة والمليئة بالصدق، تحول موسى من لص وزعيم عصابة إلى راهب مؤمن. لم يكن الطريق سهلًا، بل كانت رحلته مليئة بالصعاب والتحديات. لكن الإيمان الذي نما في قلبه كان قويًا بما يكفي ليجعله يتغلب على كل العقبات.

 


العبرة والعظة

قصة موسى الأسود هي قصة تحول وتوبة. إنها تذكرنا بأن النور يمكنه أن يجد طريقه إلى أعمق الظلمات، وأن الإيمان يمكن أن يغير حتى أعتى القلوب. موسى الأسود، الذي بدأ حياته في الظلام، انتهى به الأمر إلى أن يكون رمزًا للنور والإيمان.
للمتابعة على قناة التليجرام: @paulawagih

الجريدة الرسمية