رئيس التحرير
عصام كامل

الذين خانوا.. عاشوا!

كنت صغيرا أفعل ما يفعله الكبار عندما تمر تلك السيدة التى لم تكن قد وصلت إلى سنوات عمر متقدمة، كانوا يقولون عنها “صبية” رغم أن لها أبناء أكبر منى، كنت إذا ما رأيتها تحمل شيئا أجرى عليها قبل أن يصل إليها غيرى لأحمل عنها ما تحمل من متاع أو عتاد أو غير ذلك مما لا أعرف.


كانت تحظى بقدسية بين الجميع، يجلها الكبار والصغار، وكل ما أتذكره أنهم يقولون إنها قدمت ولدها شهيدا فى الحرب.. لم أكن أعرف أي حرب يقصدون، ولكنى أعرف أن مثلها لابد وأن ينحنى لها الجميع، وكانت هى سيدة جميلة، وقورة، ترتدى السواد طوال عمرها.


كان ابنها حافظا للقرآن، هكذا كانوا يقولون، وكان شابا فتيا، عفيا يحبه الجميع ذهب إلى الحرب ولم يعد، قالوا لها إن مدفنه فى مصر، وكانوا يقصدون بمصر أنها القاهرة. كانت تأتي إلى القاهرة كلما أتاحت لها الظروف المادية فرصة لتوفير أجرة السيارة.. تصنع “قُرَصًا” بالسمن لتوزيعها على المقابر التى لا أعرف أنا مكانها.


فى يوم الزيارة التى تقررها عادة ما يسير بجوارها فتيات فى أعمار بناتها حتى تصل إلى المحطة، فتاة تحمل “سُرة” بها القرص، وأخرى تحمل زادا من الماء عادة ما تكون «قلة» من الفخار، وأخريات يسرن بجوارها من أجل المشاركة. كانت تسير فى موكب من الصمت الرهيب.


سنوات كثيرة وأنا أرى هذه المشاهد.. مشاهد الإجلال والتكريم والتعاطف، وأحاول مثل غيرى أن أفعل كل ما يجعلها تشعر بوجودى مثل الآخرين، وكان وجهها ذا مسحة رضا وتسامح وطيبة تغلف تجاعيد لم تكن قد خطت تفاصيلها بعنف.. ناعمة كصوتها المفعم بمشاعر لم أكن أتبينها فى عمرى هذا.


مضت بنا رحلة العمر حتى نضجتُ قليلا وقررت أن أتحدث إليها، وذات مرة وأنا أحمل عنها “مقطفا” مغطى بقطعة من الكتان سألتها عن ابنها وعن الحرب وعن حياتها.. نظرت إليَّ نظرة لن أنساها، واكتفت بالقول: «كان مثلك طيبا وجميلا.. كان مثل كل هؤلاء الذين يشفقون علىَّ.. كان شابا ورحل شابا وهو يقاتل فى فلسطين».


لم أفهم ساعتها ما الذى جعله يذهب إلى فلسطين وهو ابن قرية بعيدة كل البعد عن فلسطين، وقررت أن أسأل مدرس التاريخ فى المدرسة، وبدأ المدرس الذى كان حصيفا ذكيا يشرح لي ولزملائى القصة وما فيها.. لساعتين متواصلتين والرجل يحكى والدماء تغلى فى عروقنا.. مع نهاية القصة سألت الأستاذ: كيف أقتل فى فلسطين؟

 

حرب السابع من أكتوبر 

 ومنذ هذا التاريخ وأنا فى سن صغيرة عكفت على قراءة الكتب منذ النكبة، ومرورا بما جرى بعدها، وكنت أتصور أن الذين خانوا ماتوا، وأن تلك الخيانات كانت لأن هناك خونة راحوا من عالمنا ولم يعد لهم إلا ذكر العار فى صفحات الكتب التى كنت أقرؤها.


وأدركت من قراءاتي أن الصراع بيننا فعلا ليس صراع حدود وأنه صراع وجود، وظلت هذه الحقائق عالقة بذهنى، أبحث عن كل مادة أو كتاب أو قصيدة تغذى ذلك، وابتنيت ذاكرة من كل القناعات، وقرأت عن حكايات الأبطال والفدائيين والرافضين للاستسلام.


وتغيرت الأيام ومعها قناعات آخرين إلا أنا وغيرى كثيرين، ورأيت بأم عينى عواصم عربية تزحف إلى القاتل لتبنى معه تحالفا، ورأيت مصر توقع معاهدة سلام لم يكن يعزيها فى نفسى إلا هذا الشعب العظيم الذى لم يعترف بما اعترفت به السلطات.


ومع نضج التجربة النفطية فى المنطقة العربية تغيرت أدوار العواصم؛ تراجعت عواصم كبرى وظهرت على السطح عواصم كانت صغرى، ورأيت كما رأى الجميع كيف لبعض هذه العواصم أنها اجتازت مرحلة السلام السرى إلى التطبيع الكامل وتراجعت القضية التى عشت لها وعليها وبها.


ونشبت حروب وإنتهت وهضمت عواصم عربية تحت عجلات الناتو وتحت مدافع وقنابل تحالفات دولية شارك فيها عرب، وصرنا إلى ما نحن عليه حتى جاء يوم السابع من أكتوبر من العام الماضى وسرت فى العروق دماء قديمة، وعادت القضية إلى الأذين الأيمن وصارت وريدا يحيا من جديد.


ولم تكن حرب السابع من أكتوبر كاشفة لضعف الكيان الصهيونى بقدر ما كانت كاشفة لحقائق لا يمكن تصورها لأمثالى بعد أن أصبح أمن الكيان المحتل مصلحة عربية غربية أمريكية، وبات واضحا لى ولأمثالى أن الذين خانوا فى كتب التاريخ هم الذين عاشوا، وهم الذين أنجبوا جحافل من البشر أصبحوا هناك فى مربع الخيانة، والمصيبة الأكبر أنهم تسللوا إلى كراسى الحكم.

 


فى الأسبوع الماضى زرت قبر السيدة الجليلة وبكيت كما لم أبك من قبل، وبينما أنا أبكى فإذا بصديقى يقول لا تبكِ فالحمد لله أنها رحلت عن عالمنا قبل أن تعرف أن دم ابنها ذهب هدرًا!

الجريدة الرسمية