الأسرار الإلهية في مملكة الإنسان (3)
عزيزي القارئ كنا قد تحدثنا في مقالات سابقة عن أسرار الله تعالى في مملكة الإنسان، والتي تدور حول تلك الرباعية التي تشير إلى عظمة الخالق عز وجل وطلاقة قدرته سبحانه، وهي القلب والنفس والعقل والروح.. وكنا قد تحدثنا عن القلب. وفي هذا المقال والمقالات التالية وبمشيئة الله تعالى نتحدث عن النفس في هذا المقال..
والنفس هي أعظم ما خلق الله تعالى وأبدع، وأعلى مظهر في عالم الخلق ظهرت فيه طلاقة القدرة الإلهية وعظيم الإبداع الإلهي، فهي مكمن السعادة والشقاء. وهي التى تقود صاحبها إما إلى الجنة وإما إلى النار.. يقول الله تعالى (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا. قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا).
ومن مظاهر الإعجاز الإلهي في النفس أن الله تعالى خلق النفس من النار، وأودع فيها سبحانه القابلية والإستعداد الكامل للسمو والإرتقاء والقابلية أن تقام في حضرة القرب من الله، وبلوغ منازل الملائكة الكرام.. وبنفس القدر أودع فيها سبحانه القابلية للإنحطاط والتدني وبلوغ منازل أدنى من منزلة الحيوانات والبهائم يقول عز وجل (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا)..
والله تعالى حينما خلق النفس غمسها في حياض حضرة الربوبية بما لها وفيها من العظمة والكبرياء، فخرجت معبأة بالأنا وما فيها من عظمة وكبرياء، ثم أوقفها بين يديه عز وجل وخاطبها سبحانه وتعالى بقوله "من أنتي ومن أنا".. فقالت بلسان الكبرياء والتعالي: أنت أنت.. وأنا أنا.. فعذبها عز وجل بكل أنواع العذاب وهي مٌصرة على قولها ومُنازعتها لربوبيته تعالى.. فمنعها سبحانه من أهوائها وميلها وأدبها بالجوع والحرمان من شهواتها فانكسرت وخضعت له سبحانه.
النفس البشرية وأنواعها
ومن هنا نتعلم أن تهذيب النفس وخضوعها لربها ومولاها لا يتأتى إلا على أثر مخالفة هواها وكسر شهوتها بالجوع والعطش. هذا والنفس البشرية هي جوهر ذات الإنسان وهي نفس واحدة لها سبعة أوصاف توصف بها بحسب الحالة التي هي عليها، وهي الأمارة واللوامة والملهمة والمطمئنة والراضية والمرضية والنفس الكاملة.
فإن كانت تميل إلى السوء والمعاصي متعلقة بالأهواء وأسيرة للشهوات فتسمى وتوصف بالنفس الأمارة بالسوء. يقول تعالى على لسان سيدنا يوسف عليه السلام (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ).
هذا.. وإما إذا كانت تراجع نفسها وتلومها وتعاتبها على الأفعال السيئة تسمى وتوصف بالنفس اللوامة.. وهذه النفس ممدوحة من الله تعالى ولقد أقسم بها عز وجل ومعلوم أن الله لا يقسم إلا بشيء عظيم وذلك لأنها تؤنب وتراجع صاحبها وتندم على فعل السوء. يقول سبحانه: (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ)..
هذا وإن كانت النفس في حال إستواء بين الخير والشر.. أي متساويان تسمى وتوصف بالنفس الملهمة، وهذه الصفة تتوسط صفات النفس السبعة يقول سبحانه: (وَنَفْس وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورهَا وَتَقْوَاهَا)..
هذا وأما إن كانت نفس طيبة مُزكاة تميل إلى الطاعة والإستقامة وفعل الخيرات وتأنف من الرزائل والقبائح والمعاصي تسمى وتوصف بالنفس المطمئنة، وهي النفس التي حظت بإشراقات الله تعالى وتجليه بأنواره وعلومه ومعارفه، وهي التي بلغت مقام اليقين والإطمئنان بربها عزوجل، وهي النفس المؤهلة لتلقى خطاب الله تعالى، يقول سبحانه وتعالى: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي)..
هنا تٌقام النفس في مراتب الكمال وتمنح من الله تعالى صفة الرضا والرضوان وصفة الكمال، وهي الأوصاف التي تقيمها في حضرة القرب وتعايش على أثرها حضرة الأنس بربها عزوجل. بعدما تُقام في مقام العبودية الخالصة لله، وتشرف بالانتساب إلى الله سبحانه وتعالى بصفة العبودية..
هذا ومعلوم أن شرف العبودية لله تعالى شرف لا يرقاه شرف، وفي هذا المقام يقول الإمام علي ابن أبي طالب كرم الله وجهه "كفى لي فخرا أن أكون لك عبدا.. وكفى بي عزا أن تكون لي ربا.. أنت لي كما أحب فوفقني إلى ما تحب"..
هذا والحديث عن النفس يطول ويطول. وسوف نتحدث في المقالات التالية عن الأمراض المبطونة في النفس وكيف يتم علاجها. وبما تتزكى النفس حتى تصل إلى النفس التي تحقق صاحبها بحقيقة العبودية ومنحه الله إذن الدخول في حضرة العبودية، ونيلها شرف الإنتساب إليه سبحانه.