الأسرار الإلهية في مملكة الإنسان (2)
عزيزي القارئ ما زال الحديث عن أسرار الله تعالى في مملكة الإنسان مستمرا، وكنا قد تحدثنا في المقال السابق عن القلب ونستكمل الحديث في السطور التالية، وكنا قد ذكرنا أن القلب هو أحد الركائز الأساسية في مملكة الإنسان إذ أنه محور أسرار الله تعالى في مملكة الإنسان فهو محل اللطيفة المسماة بالروح، نفخة الرحمن ومحل الإيمان والنية والعقل المبطون.
وهو المخاطب من الله تعالى والمعاتب، وهو موضع نظره تعالى ومحل أنواره وعلومه وأسراره وتجلياته. وفي هذا المقال سوف نتحدث عن الأمراض التي تصيب القلب وتحجبه عن علام الغيوب سبحانه وتعالى.
الدنيا وأمراض القلب
وأمراض القلب كثيرة لا يدركها إلا صاحب بصيرة ونور. منها وأخطرها حب الدنيا إذ أنه الأصل في كل الأمراض التي تعتل بها القلوب، فعلى أثره يأتي الكبر والتعالى ورؤية النفس والنفاق والرياء، والطمع والجشع والحرص والأنانية وحب الشهوات، والإنقياد خلف الأهواء، وكل الآفات المهلكة للإنسان.
ولقد أشار النبي الكريم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه إلى ذلك بقوله: (حب الدنيا رأس كل خطيئة) وقوله: (لا يجتمع حبان في قلب العبد حب الله وحب الدنيا). هذا وقد يُسئ البعض الفهم فيما يتعلق بأمر الدنيا فيظن أنها مذمومة بذاتها كدنيا.
وهذا فهم خاطئ فالدنيا ليست مذمومة لذاتها وإنما المذموم منها هو تعلق القلب بشئ منها والتكالب عليها، والصراع من أجلها والإقتتال عليها والطمع فيها، وأن تكون منتهى العلم ومبلغ الهم. أما إذا كانت في اليد ولم يصل حبها إلى القلب فلا بأس ومن أقوال الصالحين، "اللهم إجعلها في أيدينا ولا تجعلها في قلوبنا"..
فإذا كانت في اليد ولم يتعلق بحبها القلب وعمل العبد فيها بطاعة الله تعالى ومرضاته فنعم هي، إذ أنها مزرعة للآخرة.. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: "إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون"..
هذا ولا يخفى على العاقل أنها دار ممر وليست بدار مستقر وهي دار الإبتلاء والفتن والإختبار وأننا خارجين منها ومفارقين لها وأن مآلها إلى فناء.. وأن كل ما عليها ما هو إلا زينة الغاية منها الإبتلاء والإختبار.. يقول تعالى: "اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ".. ويقول سبحانه: "زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا".
هذا ولما كانت الدنيا هينة على الله تعالى أنه عز وجل منذ خلقها لم ينظر إليها فهي عنده سبحانه أهون من الشاة الميتة، كما أخبر الرسول الكريم صلى الله عليه وعلى آله وسلم حينما مر بمزبلة ومعه جمع من الصحابة فرآى شاة ميتة ملقاة.. فقال "أترون هذه الشاة من هوانها ألقوها. والذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله من هذه الشاة على أهلها. ولو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها جرعة ماء".
هذا ولا علاج نافع لحب الدنيا من الزهد فيها وألا تتجاوز اليد.. وفي الختام رحم الله الإمام الشافعي إذ قال: ما أحلا الإثنان إذا اجتمعا. الدين والدنيا.